International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> الفنان لؤي كيالي...يَدَّعون صداقته ويَبْتَدِعون الأقاويل

Article Title : الفنان لؤي كيالي...يَدَّعون صداقته ويَبْتَدِعون الأقاويل
Article Author : فاضل السباعي
Source : محاضرة في ندوة الشهباء في حلب
Publish Date : 2009-04-05


الفنان لؤي كيالي
يَدَّعون صداقته ويَبْتَدِعون الأقاويل
بقلم: فاضل السباعي

ماذا تعني هذه الأقاويل؟
• «يوم سافرنا معاً إلى عمّان ليقيم معرضاً لأعماله، طلب مني أن نزور مخيمات الفلسطينيين فيها، فذهبنا... أحدثت الشوفة صدعاً في نفسه، وقرر أن لا يعرض أعماله»!
• «لم يكن لؤي مجنوناً كما أراد له أقاربه أن يكون، أرادوه مصاباً بالصرع، ووضعوه في حجرة بالمستشفى كأنها تابوت»!
• «تقدّم أهله ببلاغات إلى الجهات الرسمية، طلبوا فيها إدخاله إلى مشفى الأمراض العقلية والنفسية ليسحبوا ما بقي من عقله»!
• «سألته: لماذا لا تتزوج؟ أجابني: اجتماع الرجل والمرأة في بيت الزوجية هو بنظري تدنيس للجنس»!
• «أحياناً كنت أعتبر لؤي مخادعاً لأنه يُخفي عنا الكثير من عواطفه»!
• إن حبه لمغنية في أحد أندية الليل هو حدث استثنائي وعابر رغم ولعه الشديد بها، لأنه شاب وهي عجوز. عندما كنت أذكّره بهذه المغنية الختيارة كان يفرّ ويذهب بعيداً»!
• «كنا نسهر في بيته في حلب، فدخلت امرأة، كانت تريد أن تشتري لوحة منه لكن على أن يرسمها بحيث تتناسب مع ديكور منزلها الجديد، فطردها»!
• «أنا أعرف أنه كان يحب مطربته، لكنني لم ألمحه في يوم ما أهداها وردة أو لوحة»!
• «سألته: لقد أحرقتَ مبلغاً كبيراً، خمسمائة ليرة، هو ثمن لوحة لك، من أجل مطربة تغني في نادٍ ليلي، وأنت تعرف أنها مغنية من الدرجة العاشرة؟»!

تساءلت، وأنا أقرأ هذه "الأقاويل" منشورةً في جريدة "السفير" اللبنانية (عدد الثالث عشر من شهر شباط 2009): ماذا يريد الكاتب أن يقول، وما الذي يُخفيه بين السطور؟
لؤي كيالي، تعريف عابر:
ولد لؤي كيالي عام 1934 بحلب، في أسرة عريقة ظهر فيها رجالات علم وأدب ودين، وفي الخمسينيات كان يتزعم "الحزب الوطني" في سورية الدكتور عبد الرحمن كيالي الذي ألّف كتاب "المراحل" (من أربعة أجزاء) يؤرّخ فيه لحكم الانتداب الفرنسي لسورية. وكان الجد الشيخ إسحق الكيالي عميداً للأسرة في وقته، وفي كنفه وفي ظل الأب حسين قضى لؤي طفولته في البيت الكبير الملحق بـ "الزاوية الكيالية" ذات الشهرة، الكائنة في وراء الجامع الأموي يقابلها "زقاق الزهراوي".
درس لؤي بحلب، ثم أوفد إلى إيطاليا حيث نال شهادة أكاديمية الفنون الجميلة في روما (1961). وفي الوطن قام بالتدريس في كلية الفنون الجميلة بجامعة دمشق. وقد حقق في ممارسته الفن التشكيلي نجاحاً باهراً اعترف به الداني والقاصي، وسُجِّل اسمه رائداً في هذا الفن. وإلى شخصيته الجذّابة، شكلاً وفعلاً ونبلاً، يرجع الفضل في أنه حبَّب اللوحة "للذين يملكون" فجعلوها في صدور بيوتهم، بما تحمل من جمالات الطبيعة وهموم المرأة والطفل وعذابات الناس، وذلك إلى جوار ما يقتنون من الأواني الصينية الفاخرة والسجاد الكاشاني الغالي. ولم يكن لؤي في ذلك بعيداً عن قلب السلطة منذ 1963، التي منحته الرعاية في أيام محنته بالقدر المتاح. امتدت شهرته إلى الوطن العربي وإلى ما هو أبعد، فلوحاته اليوم من مقتنيات المتاحف العالمية.
ألمّ به، وهو في العاصمة ينعم بالعطاء والنجاح، ذلك المرضُ الذي يسمى الفُصام منذ صيف 1966 في الوقت الذي اتفق لي أن انتقلت بوظيفتي الرسمية من حلب إلى دمشق. أخذ يرسم، تحت وطأة تلك المعاناة، بطريقة مختلفة، لوحات سمّى مجموعة منها "الإنسان في الساح"، ثم مجموعة أخرى "في سبيل القضية"، وأقام بالمجموعة الثانية معرضه السابع في المركز الثقافي العربي بأبو رمانة (نيسان 1967)، تعرّض خلاله لأشرس حملة من الحاسدين والشانئين.
دخل لؤي كيالي المشافي للمعالجة. وكان يعود إلى ممارسة حياته الطبيعية، ثم ينتكس. وفي حلب أقام عام 1970 في بيت عمَّتَيْه فاطمة الزهراء وقدرية. وعندما توفي يوم 26 كانون الأول 1978، بعد احتراقه في فراشه بحلب، كان ما نُشر في الصحافة تأبيناً له لا يدانيه في الكم وحرارة العاطفة ما كُتب عن أي من المبدعين في سورية لا قبل ولا بعد.
لؤي وجلساؤه:
بدايةً أحبّ أن أبيّن أن كثيراً من الفنانين والكتّاب، قد انعقدت بينهم وبين فنان سورية التشكيلي لؤي كيالي الصداقةُ والمودة، مثلما تحركت في بعض النفوس عواطفُ من نوع آخر... ثم كان أن تأصّلت المودات في النفوس، وأما من لامست قلوبَهم مَوْجِدةٌ فقد انحسرت عن القلوب المواجدُ والمواجع وخَلُصَت النيّات والطبائع، لاسيما بعد أن صَعِد نجمه، الذي التمع في سماء الفن مثل شهاب، ولكنه شهاب لم يَخْبُ ضياؤه، لخصائص في فنه وخصال في شخصه.
كان لؤي كيالي، في حبه للناس من مبدعين ومثقفين وبسطاء وفقراء، جمَّ التواضع، يجالس ويحاور ويصغي. وقد تكون المجالسة في منتدى، أو في مقهى، ولا بأس أن تكون على رصيف شارع، يحادث الباعة الصغار، الذين يحاولون كسرحدّة الفقر بالدخول إلى معترك الحياة قبل الأوان، فكان لؤي المحبُّ للإنسان يجعل من بعض هؤلاء موضوعاً للوحات تدخل دنيا الفن من أوسع أبوابه.
هل كان لؤي يخطئ، أحياناً، في اختيار جلسائه، فيدع بعضهم يتسلّل إلى عالمه الجميل؟ وإلى ذلك كان لؤي مضيافاً يتحمّل ما تستوجبه "الجِلسةُ"، التي يتحلّق فيها المحبّون... ولم يكن بعضهم محبّاً، لا ولا كان جديراً بأن يجالس فناناً كبيرا.
مِن هؤلاء من أشادت أقلامهم به في صحف العاصمة. أحياناً كان واحد من هؤلاء "يتغيّر"، فينقلب فجأة إلى مندِّدٍ، يَبْلغ الأذى الراشحُ من قلمه ولسانه حدَّ التجريح، ثم إنّ لؤي الأصيل كان يصافح ويسامح. مرة قرأت في صحف العاصمة ما أشفقت منه على لؤي، فأخذت سماعة الهاتف، وناشدتُ المحرر: هل تريدون أن تُعيدوا في 1976 ما ارتكبتم بحق لؤي في 1967؟! ولم يغلق المحرر الهاتف في وجهي، بل أغلق باب التهجم دون الأقلام المتهوّرة. المفارقة أن هذا المحرر نفسه كان واحداً ممن أساؤوا إلى لؤي عند إقامته معرضه "في سبيل القضية"، بأن كتب في صفحته بحروف مؤذية: رسام كلاب سفارات أبو رمانة يريد أن يعلمنا الاشتراكية! وذلك حين كانت الاشتراكية متطلَّعَ الأنظار ومحطَّ الآمال.
في رحيل لؤي اندثرت تلك الأقلام الناشزة، على قلّةِ شأنها. ولكنّ واحداً -ولا أظن أن له ثانياً- مازال يتحيّن الفرص ليقول في فناننا الراحل كلاماً معسولا ثم بعده يدسّ السمّ في الدسم، وهو في ذلك يدّعي صداقة كانت تربط بينهما (مع فارق السن: هو كان في العشرينيات وفناننا في الأربعينيات)... فتراه يقول:
• يوم سافرنا معاً...
• طلب مني لؤي...
• سألته: لماذا لا تتزوج...
• كان يخفي عني الكثير من عواطفه...
• كنا نسهر في بيته...
هذا عن الدسم الكاذب، وأما السمّ:
• أحبّ لؤي مغنية من الدرجة العاشرة!
• كان لؤي يفرّ مما أحدثه به ويذهب بعيداً!
• طرد من بيته امرأة بمنتهى الأناقة، فقلت له: أوتُشهر السيف في وجه امرأة؟!
• ويرميه بالبخل: لم ألمحه يوماً يهدي وردة لمغنيته العجوز!
• ويزيد باتهامه بالإسراف والإسفاف: لماذا أحرقت خمسمائة ليرة، هي ثمن لوحة لك، من أجل مطربة تغني في نادٍ ليلي؟!
ولا يوفّر في ذلك أهل لؤي وأقاربه:
• أرادوه أن يكون مصاباً بالصرع!! تقدّموا ببلاغات إلى الجهات الرسمية، وطلبوا إدخاله إلى مستشفى الأمراض العقلية والنفسية! وضعوه في حجرة كأنها تابوت!
كلامٌ كاذب باطل.
تعالوا نقرأ معاً:
الرحلة إلى عمّان:
يقول كاتب المقال:
«أذكر أننا يوم سافرنا معاً إلى عمان في عام 1978، ليقيم معرضاً لأعماله، أول ما وصلنا طلب مني أن نزور مخيمات الفلسطينيين فيها، فذهبنا إلى مخيم الحسين، فشاف ما شاف وبكى ما بكى. أحدثت الشوفة هذه صدعاً عميقاً واسعاً في نفسه، وقرر أن لا يعرض أعماله»!
إنّ ما ينافي طبيعةَ الأشياء، مما ورد في هذا الكلام، أمران:
أولهما: الأثر الذي أحدثته رؤية لؤي لما في داخل المخيم، وكأن "النكبة" وقعت عشية ذلك العام، وأن لؤي لم يسبق له أن شاهد فصولاً من البؤس والمعاناة، من فقر وتشرّد قبل ذلك اليوم، وكأنه ولد وفي فمه ملعقة من ذهب. وينسى الكاتب إبداعات فناننا في اللوحات التي رصد فيها مظاهر الفقر والمعاناة.
الأمر الآخر: أن لؤي، في هذا الادعاء، عدل بعد تلك "الشوفة" عن إقامة المعرض الذي ما حضر إلى عمّان إلا من أجله... أكذلك يكون اتخاذ فنان قرارا بإقامة معرض وقرارا آخر بالعدول عنه؟! أي إسفاف!
وواقع الأمر أن لؤي كان قد اتفق - ثم بدا أن الاتفاق لم يكن ناجزاً- مع إحدى المؤسسات السياحية في عمّان، على أن يقيم معرضاً لأعماله في رحابها، في تاريخ محدد. وأذكره جيدا وهو يحزم اللوحات في حديقة بيتي بدمشق ثم يتوجه بها إلى عمان نشيطاً متفائلاً، ثم ما هو إلا يوم أو اثنان حتى رأيناه يعود إلينا مكتئباً: المؤسسة فوجئت بقدومه وهي لا تعرف أن اتفاقاً على إقامة المعرض قد اتخذ. فهل أراد الكاتب أن يؤكد المؤكَّد: النزعة الوطنية الإنسانية التي يتمتع بها لؤي؟ وأن يبيّن كذلك دورَهُ هو الهام في مرافقة الفنان الكبير في سفره وفي اتخاذ قرار العدول؟!
وليته عرف على وجه الدقة، العام الذي يعتزّ بأنه كان فيه مرافقاً للفنان الكبير إلى عمّان، فلم يخطئ في تحديده: إنه 1977!
الدخول إلى المصح في عام 1970
فيما اعترى لؤي من ذلك المرض، وقد اضطر والده وشقيقته الكبرى لمغادرة دمشق إلى حلب، سألت العم الدكتور طه إسحق الكيالي بحلب، فأشار عليّ بأن أراجع في دمشق الطبيب الدكتور جمال الأتاسي. كان ذلك في شتاء 1968-1969 إن لم تخنّي الذاكرة. وكان أن نبّهني هذا الطبيب، المتخصص والمثقف والذي يعمل في الحقل السياسي، على أن حالة لؤي صعبة، وأن المصاب بالفصام ربما اندفع إلى العنف وإلى التمادي فيه، ومع أخْذ الطبيب بعين الاعتبار أن لؤي نشأ في أسرة أحاطته بالعناية إلا أن المصاب -كما بيّن لي- قد يندفع في حالة اشتداد المرض إلى اقتراف ما يُخشى منه.
أتجاوز هنا الزمن، إلى ما بعد انتقال لؤي إلى حلب ومشاركته عمَّتَيه -اللتين ربّتاه صغيراً- السكنى في بيتهما في حي "بستان الزهرة" في الفيض. ومع أنه كانت تُظلّه ساعاتٌ حلوة يرسم فيها الجمال، حتى إن مواطناً حلبياً من المغتربين في كندا هو "ريمون كنيدر"، زاره مرة وابتاع كل ما وجد عنده من لوحات، إلا أن حالته النفسية كانت تتردى، فيُخشى عليه ويُخشى منه.
رأى عمُّه، الباقي على قيد الحياة من بين أربعة أشقاء (حسن، وحسين - الأب، وأحمد)، أن تجري معالجته نفسياً هذه المرة في مصح حلب التخصصي. فكتب "تقريراً صحياً" (وليس بلاغا!) هو ما حرص الكاتب على نشره في الجريدة:
«نظراً لإصابة الأستاذ لؤي كيالي بهجمة حادة من داء الفصام، فهو بحاجة ماسة وملحة لوضعه تحت العلاج في مستشفى الدويرينة للرقابة والعلاج»، والتاريخ 3 أيار 1970.
ولا بأس هنا في أن أشير إلى الحرج الذي يستشعره الناس في بلاد الشرق من مثل هذه المعالجة، مع ما تتطلبه هذه الأمراض من المعالجة السريرية.
يقول الكاتب :
«لؤي كان يحلم. لم يكن مجنوناً كما أراد له أقاربه أن يكون. أرادوه مصاباً بالصرع ووضعوه في حجرة بالمستشفى كأنها تابوت... فنان مثل لؤي كيالي ليس مكانه مشفى الأمراض العقلية، التي ورّطه فيها عمُّه الطبيب طه إسحق الكيالي، ومن ثم عمته، ومن ثم صهره، ومعهم أحد الأطباء الذي رأى في تقرير له ضرورة الحجر عليه تحت الرقابة لخطورة وضعه الصحي، فاستقبلته المشافي العقلية ولثلاث مرات، تقدموا ببلاغات إلى الجهات الرسمية...»!
إن في هذا الكلام تطاولاً على الحقيقة، وكثيراً من البهتان، مع المزاودة المجانية:
أولاً: لم يقل أحد أن لؤي كيالي كان مصاباً بالصَّرع، واسمه العلمي Epilepsy ، الذي يغيب فيه المصاب عن وعيه ساعةَ حدوث الحالة دقائق، حتى سماه العامة "مرض الساعة"، بل كان مرضه الفُصام Schizophrenia، الذي تتبدّى أعراضُه في انسحاب المريض من علاقاته الاجتماعية، وينتفي عنه النوم، وقد يرفض الطعام حتى يهزل جسمه، وفي حالة الاشتداد يظهر عنده شكٌّ في الناس، وقد تنتابه عدائيةٌ هجومية.
وما ورد في تقرير عمّ لؤي، الدكتور طه إسحق الكيالي (وقد كان في حلب نقيباً للأطباء، ومديراً للصحة، وأستاذاً بكلية الطب، وعُرف طبيباً نطاسيّا يتمتع بالكفاءة والشهرة)، ذلك التقرير الذي كتبه بمشورة صديقه الطبيب المتخصص بالأمراض النفسية، الذي ظلّ يشرف على معالجة لؤي، الدكتور عبد الخالق سلطان: أن هناك "هجمة حادة" من داء الفصام «فهو بحاجة ماسة وملحّة لوضعه تحت العلاج»، والعم هو الذي كتب التقرير، وليس الدكتور سلطان!
فأي قراءة للتقرير!
ثانياً: يدعي الكاتب أن المشافي العقلية استقبلت لؤي «ثلاث مرات في: 5/5/1970، و26/1/1971، و4/3/1973، تقدموا ببلاغات إلى الجهات الرسمية في مدينة حلب، طلبوا فيها إدخاله إلى مشفى الأمراض العقلية والنفسية ليسحبوا ما بقي من عقله، عقله القوي والثوري...»!
الكاتب هنا يكذب على الواقع، فهو -في استرساله بالتظاهر في الدفاع عن لؤي، وضّد من؟ ضدّ أهله- يتزيّد بأن يضيف إلى المعالجة في المصح عام 1970، دَخْلتين أخريين: في العامين 1971 و1972، وهذا بهتان. ولا يخفّف من ذلك تملّقُه الفنانَ بوصف عقله بـ "القوي والثوري"!
"عمى القراءة":
يقول الكاتب إن وضع الفنان في حجرة في المستشفى كأنها تابوت، دفع مدير الثقافة آنذاك بكري الناصر إلى أن «يطلب إطلاق سراحه» بخطاب رسمي وجهه إلى محافظ حلب بتاريخ 20/5/1970.
لكن ماذا قال الخطاب؟
«علمنا من بعض الفنانين بحلب أن الفنان لؤي كيالي قد نُقل منذ مدة إلى مستشفى الأمراض العقلية. ونظراً لمكانة هذا الفنان... أرجو الإيعاز إلى مديرية الصحة بحلب لتتولاه بعناية خاصة وتضعه في إحدى الغرف الخاصة بعيداً عن المرضى، وتوصي به الأطباء، حرصاً على سرعة شفائه وحفاظاً على كرامة الفنانين في هذه المدينة».
وماذا يقول الكاتب؟
«مدير الثقافة يطلب من محافظ حلب إطلاق سراحه وإخراجه من هذا القبر، ففنان مثل لؤي كيالي وكما رأى مدير الثقافة حينها، ليس مكانه مشفى الأمراض العقلية...»!
فأية قراءة لخطاب مدير الثقافة (وقد حرص الكاتب أيضا على نشره بالجريدة)! هل أَستَحْدِثُ اسماً لمرض أُسمّيه "عمى القراءة" على وزن "عمى الألوان"؟
غرفة نظيفة وأدوات رسم:
حدثني الفنان المتميّز سعد يكن، صديق لؤي الحقيقي وتلميذه بكلية الفنون الجميلة، أنه قام وزوجته بزيارة لؤي في ذلك المستشفى. فرآه في حجرة نظيفة تجاور غرفة الممرضات، والمعالجة تتم بإشراف المدير الدكتور عبد الخالق سلطان، ورأى سعد في الغرفة الأدوات ومواد الرسم، وحدّثه لؤي: بأن الدكتور سلطان وعدْ إن هو شرع في الرسم هنا فسوف يتاح له أن يمارس الرسم في بيته عما قريب.
فأي تابوت! وأي قبر!
ما اقترفه الصهر والعمّ:
عندما اشتدّ المرض على لؤي، في شتاء 1968 ـ 1969، وهو بدمشق وحيداً في بيته في "حي العفيف"، أشار عليّ العم بأن أصحب لؤي -ولو خطفاً- إلى مشفى في بيروت، ليتولى معالجته هناك صديقُه الطبيب المتخصص السوري من أبناء حمص الدكتور علاء الدين الدروبي.
لم تكن مرافقتي للؤي في هذه المهمة سهلة، فاستعنت بصديق لؤي (الذي كان صَحِبَهُ في عام مضى بزيارة إلى حلب، وقضيا معاً ليلة في بيت العمتين، الأستاذ سليمان الخش قبل أن يصبح وزيراً، والآن في عام 1968 يتولى وزارة الداخلية)، فأمدّني الرجل بسيارة من عنده مع ثلاثة أنفار.
كان الدكتور الدروبي باستقبالنا في مشفاه برأس بيروت. وكانت منه معالجةٌ مجانية وعناية استثنائية. وأذكر أني قرأت في عينيه - وهو المثقف المقدِّر للفن- إشفاقاً على "الزهرة" لؤي أن يصاب بهذا الداء الذي لا يسهل الخلاص منه، ولكنها المعالجة التي تتوخّى التخفيف.
أقول: قرأت إشفاقاً، وأضيف: وحباً وتفانياً، بلغا بهذا الطبيب أن وعد مريضه، فيما تلا من زيارات للمعالجة، بأنه إن عاد إلى ممارسة فنه الجميل، فإنه سيقيم له، في صالة بيته ببيروت، معرضاً للجديد من أعماله، يدعو إليه الخاصّة من أصدقائه المحبين للفن، من لبنانيين وعرب وأجانب.
استطاع هذا الطبيب -الإنسان، صديق العم المعنيّ جدا بمعالجة ابن أخيه- أن يحمل فناننا الشاب، الذي كسره المرض ولم يحطِّمه، على أن يستعيد ثقته بنفسه. وهكذا استفاق الإبداع في نفس لؤي، وهو في بيت العمتين الحنونين، وسرى العزم في أنامله المرهفة، واشتغل وعمل وسهر، حتى إنه كتب إليّ في 30 آب/ أغسطس 1972 سعيدا مبتهجا يقول: «إنني أرسم بحماس جيد وباستمرار». ثم حمل لوحاته العشرين إلى بيروت، وكان معرضٌ في بيت الطبيب الدروبي، وكان إقبالٌ من النخبة الصديقة الصادقة، منقطعُ النظير، توزّعت فيه اللوحات عن آخرها، وبأغلى ما هنالك، وعاد لؤي إلى حلب ناجحاً غانماً، واشترى بما تحصّل له وبقرضٍ من المصرف أول بيت تملّكه، على سطح بناية تجاور بيت العم في "حي السبيل" بحلب... وهذه صورة فوتوغرافية نقدمها للنشر، تجمع الطبيب وهو في بيته ببيروت، والعمَّ وابنَ الأخ العائد إلى فنه الأثير.
لؤي المحبّ لسماع أغاني أم كلثوم:
يسترسل الكاتب في حديثه عن علاقةٍ للؤي بمغنية سمّاها، كانت تعمل في السبعينيات في أحد الأندية الليلية بحلب، يصفها بأنها "مغنية من الدرجة العاشرة، عجوز ختيارة"، مدعياً أنه كانت تربطه بها "علاقة حب"، ومُعْلِياً من شأن نفسه حين يتوهّم ويوهِم أنه كان -وهو في العشرينيات من عمره - صديقاً حميماً للفنان الكبير! يقول: «أحياناً كنت أعتبر لؤي مخادعاً لأنه يخفي عني الكثير من عواطفه»! ثم يؤلِّف حواراً، واضح التزييف، حول هذه العلاقة الكاذبة، مدعياً أيضاً أن لؤي أحرق مرة "أم الخمسمئة ليرة" من أجلها وهي تغني!
وأمام هذا التلفيق أُبيّن أن لؤي كيالي -بصفته "حلبيّاً"- كان واحداً من "السمّيعة" الأصلاء. وفي تردّده على أحد الأندية أُعجب حيناً بأداء مطربةٍ لأغاني أم كلثوم، ولم تكن المطربة عجوزاً، وكانت تأتي إلى النادي وتنصرف برفقة زوجها، هذان اللذان كان يسعدهما أن يكون بين الجمهور فنانٌ كبير الشأن، حتى إنهما كانا يُقبِلان عليه وهو وراء طاولته، يسلّمان عليه باعتزاز، وينهض لؤي، المهذب جداً، ليصافحهما.
ولم يحدث أن أحرق لؤي ورقة نقدية في نادٍ أو في ملهى، وهو الذي يجني رزقه بعرق الجبين وإعمال الذهن واقفاً أمام مرسمه، ولكن مرة -حدثني أحد أصدقائه- قام لؤي، طاوياً في كفّه "أم المئة" طيّةً ناعمة، ودسّها في جيب قميص أقرب أفراد الفرقة الموسيقية إليه... وهذا شأن المتحضّرين، لو يعلم الكاتب! وأما إحراق الورق النقدي في محلّ عام فهو من تصرفات السفهاء.
ولا بأس في أن أضيف أن لؤي كان معجبا بمطربة أخرى اسمها "ليلى فوزي" (على اسم الممثلة المعروفة)، ومردّ إعجابه هنا إلى ما تتحلّى به من عينين تذكّرانه بعينَي أمه الراحلة.
مَن ذا الذي يطرد امرأة!
ويخترع الكاتب حكاية ابتدأها بأن لؤي كان يرسم النساء «يحاول أن يفرجينا جمالهنّ وليس تعاستهن وأحزانهن وبكثير من الثراء الروحي»، أقول: كلام معسول آخر، ثم: «لكنه من جانب آخر كان يعتبر نفسه فارساً فلا يلين لهن ولا يجاملهن»!
بعد ذلك يدس السمّ:
«كنا نسهر في بيته في حلب، فقرع الباب، فتحه، فدخلت امرأة على ذات من الجمال(!) وبمنتهى الأناقة، كانت تريد أن تشتري لوحة منه لكن على أن يرسمها بحيث تتناسب مع ديكور منزلها الجديد، فطردها. فقلت له: أوتُشهر السيف في وجه امرأة؟ فأجابني: كيف تدنّس شرف الفنان وأسكت؟ أنا لست خياطاً ولا قندرجياً!؟»!
إن هذه الفجاجة في التصرف، والفظاظة والغلاظة، ليست من خصال لؤي، بل هي وليدة خيال يحاول التزييف ولا يتقنه. اعتاد لؤي رسم وجوه النساء المشرقة والمتأملة، تحلّيها العيون العميقة المعبّرة التي كثيراً ما اقتبسها من عيني أمه المقدسة الراحلة في عزّ الشباب، "مجيدة كيالي" (التي عاشت صغيرةً في كنف خالها مفتي حلب الشيخ عبد الحميد الكيالي)، ومن عيني عمته فاطمة الزهراء.
ثرثرة حول الحب:
ويوظّف الكاتب حكاية "طرد المرأة من البيت"، ويدمجها في الحكاية الملفقة الأخرى "حب المغنية العجوز"، لينسج حواراً حول الحب، يحاول أن يؤكد فيه عمق الصداقة بينه - وهو الذي كان صغيراً سنًّا وقدراً- وبين قامة الفنان الشامخة، موهماً أنه كان مستودع أسراره!
قال لي بعض أصدقاء لؤي من الفنانين، أن أحداً منهم ما كان يجرؤ على الخوض معه في حديث عن الحب.
يقول المدّعي متفاخراً:
«في حديثنا مع بعض سألته: لماذا لا تتزوج؟
أجابني: اجتماع الرجل بالمرأة في بيت الزوجية ربما هو اجتماع لتقديس وتمجيد الجنس، ولكنه بنظري هو تدنيس له. ألا ترى أنه وجه من وجوه العنف، لكنه يتم برضى الطرفين المرأة والرجل!
وأردّ عليه: لكن فيه عذوبة تعدّل من عنف اللقاء بل تحيله إلى متعة، متعة مقدسة...».
عودة إلى المغنية العجوز!
ولأن الكاتب يريد أن يسترسل في حديث عن لؤي، فليغترف من خياله ما يملأ حيزاً إضافياً في صفحة ثقافية بجريدة مقروءة.
يقول، مستثمراً حكاية طرد المرأة من البيت:
«وأسأله: لو أن مغنيتك طلبت منك ما طلبت هذه المرأة هل كنت ستطردها؟
يشعل سيجارة ويعبّ منها نفساً عميقاً ويقول: هناك فرق بينهن(!)
أنا أعرف أنه كان يحبها، يحب مطربته وسيدافع عنها، لكني لم ألمحه في يوم ما أهداها وردة أو لوحة!
سألته: لقد أحرقت مبلغاً كبيراً، خمسمائة ليرة ثمن لوحة لك من أجلها، وهي تغني في نادٍ ليلي، وأنت تعرف يا لؤي أنها مغنية من الدرجة العاشرة؟
يفتل شاربيه، ويرفع رأسه عالياً وقد أغضبه رأيي: وما المانع؟ يجيبني لؤي ويستطرد: بالنسبة لي هي مطربة من الدرجة الأولى، هذا إحساسي بها. فان غوغ قطع أذنه من أجل حبيبته.
معنى هذا يا لؤي أنك تحبها؟
يسكت، ثم يفتل شاربيه ثانية، وأقول له: قياساً إلى ما فعله غوغ أنت لم تفعل شيئاً، أنت لم تهدها ولو وردة.
ينهض واقفاً، يسوّي بنطاله ويشعل سيجارة ثانية ويقول: وهل تريدني أن أقطع أذني، هل يروق لك ذلك؟!».
يظن الكاتب أنه أبدع حواراً شائقا، ولم يَجُلْ في خاطره أن صهر الفنان الراحل، مازال على قيد الحياة، وأنه قد يقرأ هذا الحوار، يفحصه ويروزه، ويبيّن للناس ما فيه تزوير!

كلمة يسمح لي القراء بقولها:
أحب أن أشير إلى تأثير لؤي كيالي، بشخصه النبيل وفنه الجميل، في ذرّيّتي، أنا زوج شقيقته:
إن ابنتيّ سهير (في لوس أنجلوس) وخلود (بدمشق) فنانتان تشكيليتان، تشاركان بأعمالهما في المعارض الفنية وتقيمان المعارض الفردية، في الوطن وفي العواصم العربية، وفي فرنسا وأمريكا.
وأن حفيديّ الشقيقين من ابنتي خلود، نبيه وماجد هنانو، يمارسان هذا الفن التشكيلي ويشاركان.
وإن حفيدتي من ابنتي الكبرى سوزان، ديمة سعود، تمارس هذا الفن في فلوريدا.
وكما قلت في إحدى المقابلات التلفزيونية: إني إن افتقدت في ذرّيّتي، من أولادٍ وأحفاد وأسباط، مَن يمارس هواية الكتابة متأثراً بالأب أو بالجد، فإني لسعيدٌ لأن فيهم من يمارس الفن التشكيلي، ومعتزٌ بتأثير الخال لؤي كيالي العظيم في ذريتي، في الجيلين الثاني والثالث.
كلمة أخيرة:
إن فن لؤي كيالي، وشخصه، ليسا في حاجة إلى من يدافع عنهما، لأن ليس هناك إلا المعجبون والمقدّرون... حتى الذين آذوه يوماً تراجعوا، واعتذروا، وغدوا في طليعة المحبين.
هذا إلى أن من يبغي التصدي للدفاع عنه -وليس ثمة حاجة- يجب أن يتّسم بالنزاهة، وبالقدرة على قراءة الوقائع والوثائق بعينين لا يُغشّيهما الغرض.
ولا يفيد في هذا ادعاءُ الصداقة والتباهي بالتغلغل إلى موطن الأسرار، وقد ظل الكاتب يستجمع ما عنده حتى ظن، بالأمس، أن سيفجّر قنبلة المعرفة، في الذكرى الثلاثين لرحيل فناننا، بمحاضرة أعدّها ليلقيها في دار الكتب الوطنية بحلب، فقد حدثوني عن الحَيْرة التي اعترت الإعلاميةَ التلفزيونية وقد جاءت بفريق التصوير: كيف يتأتّى لها أن تصوّر "الجمهور" الحاضر، الذي لم يتجاوز عدد أفراده أصابع الكفّين، نصفهم من موظفي الدار!
وقبيحٌ الصعودُ على أجداث الراحلين والوقوفُ على أجساد الباقين في الحياة، اجتذاباً للأنظار واكتساباً لشهرة مزيّفة.
ولعلّ الأهل الكرام يُعِدّون اليوم ما يلزم لدعوةِ مُشَوِّهِ الحقائق ومخترع الأقاويل للمثول أمام القضاء.

دمشق الشام: 23/3/2009 فاضل السباعي
عضو مؤسس في اتحاد الكتاب العرب
fadsibai@SCS-net.org