International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> لؤي كيّالي في ذكراه الثانية

Article Title : لؤي كيّالي في ذكراه الثانية
Article Author : خليل صفية
Source : مجلة الموقف الأدبي - العدد 116 كانون الأول "ديسمبر" 1980
Publish Date : 1980-12-01


مجلة الموقف الأدبي - مجلة أدبية شهرية تصدر عن اتحاد الكتاب العرب بدمشق - العدد 116 كانون الأول "ديسمبر" 1980
لؤي كيّالي في ذكراه الثانية ـــ خليل صفية

-1-‏

الحديث عن فن "لؤي كيالي" في الذكرى الثانية لرحيله "26 كانون الأول عام 1978" يستدعي محاولة الإحاطة بالعطاء المتميز الذي قدمه هذا الفنان عبر تجربة تعود إلى بداية الستينات "حصل عام 1961 على شهادة أكاديمية الفنون الجميلة في روما وعاد إلى الوطن ليعمل مدرساً للفن في ثانويات دمشق ثم في كلية الفنون الجميلة" وقبل البدء في هذه المحاولة لا بد من الإشارة إلى المأساة الحقيقية التي عاشها، وإلى ذلك الاحتراق الداخلي الذي انتهى بفاجعة رحيله، ذلك أنه كان يحتفظ في داخله بمأساته وقلقه، إلا أن هذه المأساة كانت تظهر بهدوء بين فترة وأخرى في لوحاته، عبر شخوصه المأساوية التي شاركها حزنها وآلامها، أو لنقل اتحد بها في فنه، وأعاد رسمها عشرات المرات في لوحات عدّها بعضهم نوعاً من التكرار لفنان يبحث عن موضوع ورأينا فيها هاجساً دائماً يلح عليه كأهمية الحلم الذي يتكرر في الوعي واللا وعي، فليس المهم أن ينتقل الفنان من موضوع إلى آخر، بل المهم أن يعطي لموضوعه حقه من المعالجة، وثمة فنانون أمضوا حياتهم في معالجة موضوع محدد دون أن يقعوا في النمطية الآلية في التعبير وتلك مسألة تعود إلى وعي الفنان وقدراته الإبداعية.‏

-21-‏

بدايات "لؤي" الفنية:‏

لم يبرز "لؤي كيالي" فناناً على الساحة التشكيلية إلا بعد عودته إلى دمشق من روما وتخرجه في أكاديمية الفنون الجميلة عام 1961. إلا أنه عاش تجربة غنية في روما وأقام عدة معارض فردية متميزة، كما حاز على بعض الجوائز التشجيعية، وعاش صراعاً حقيقياً مع أساتذته في الفن بحيث دفعه ذلك إلى التحول من قسم التصوير إلى قسم الديكور ومتابعة التصوير خارج جدران الأكاديمية.. لكن ماذا عن البدايات الأولى؟‏

يقول (لؤي كيالي): "أول عمل فني على ما أذكر تخطيط لجدي على اللوح الحجري عندما كنت في سن الحادية عشرة تقريباً.. أما عن حداثتي الفنية فقد كانت في السنوات الأولى دون توجيه"(1) "بعد التخطيط على اللوح الحجري انتقلت إلى نسخ بعض اللوحات العالمية لبعض الفنانين أمثال ليونادو دافنشي وروفائيل، ثم درست الفن في إيطاليا حيث أبديت نشاطاً ملحوظاً في مجال الفن ونلت العديد من الجوائز"(2) وبكل ثقة يتابع فيقول: "وفي أوائل الستينات عدت إلى بلادي وتابعت نشاطي الفني حتى وصلت أخيراً إلى مصاف الفنانين الأوائل في القطر، ويقول بعضهم في الوطن العربي"(3).‏

هذا يعني أن "لؤي" عندما ذهب إلى روما كان يحمل معه تجربة فنية لا تنقصها الخبرة الأكاديمية، لذلك اصطدم مع أساتذته في التصوير وتابع الإنجاز على طريقته، ولعل ما بقي من لوحات تعود إلى تلك المرحلة يشهد أن "لؤي" لم يدرس في روما بل صنع هناك بداية فنه وترك مجموعة أعمال لا تقل أهمية عن بقية إنجازاته، وعن تلك المرحلة يقول الفنان فاتح المدرس الذي عاش مع "لؤي" في روما: "كان ذلك عام 1959 عندما أقام لؤي معرضه في روما، وقد تمايزت لوحاته بالصفاء في التعبير والدقة في المعالجة والمهارة في تقنية الخط الأكاديمي.. وقد نجح المعرض نجاحاً كبيراً، وكان "لؤي" يعيش وحيداً وبين الفترة والأخرى يلتقي في مرسمه بعض الفنانين العرب في حوار فني حول الفن بشكل عام وأعماله بشكل خاص. إلا أن اللقاء المهم بيني وبينه كان عندما تحاورنا في نهاية السنة الأولى في الأكاديمية- أكاديمية الفنون الجميلة في روما-، فقد أراد "لؤي" أن يترك قسم التصوير عند الأستاذ جنتلليني ويلتحق بقسم الديكور المسرحي، وأذكر أنه قال بنبرة جدية كما هو في أكثر حالاته- التسمية لا تهم، إنني رسام وسأظل أرسم، أما الديكور فهو مهنة أخرى- وهكذا سار على طريقه يدرس الديكور في الأكاديمية ويمارس التصوير خارج الأكاديمية... وعندما رشح لتمثيل القطر العربي السوري عام 1959 في بينال البندقية عرض أربع لوحات حملت في جوانبها نكهة الشرق وسحره.. ثم تخرج وحصل على عدة جوائز وميداليات ذهبية و "سمع الناس من جديد باسم سورية القديمة وكيف كانت تغزو روما". هذه العبارة هي للأستاذ الفنان الإيطالي فرانكو جنتلليني الذي كان يحب "لؤي" ويحترمه ويقدر فنه.."(4) ويضيف الفنان فاتح المدرس: "ثم عاد "لؤي" إلى دمشق ليحمل في أعماقه عالماً يختلف تماماً عن عالمنا.. لقد أراد أن يحقق في فنه معادلة تتمثل في المأساة الداخلية التي يشعر بها والمأساة الخارجية في حياة الفقراء وخاصة الأطفال.. كان يرسم وجوهاً حائرة، غائرة العيون، هي بين العذراء وبين إنسان آخر غائر في ضميره.. وهذا يعني بأن الفنان ينضح من ذاته أولاً وأخيراً، وكل التقنيات التي استخدمها هي وسيلة لبلورة الصورة المأساوية التي لا يمكن لأحد أن يصورها.. إن الحزن الذي كان في أعماق "لؤي" لو قدر له أن يخرج إلى الضوء لأظلم هذا العالم ولشفي الفنان.. وكان إحساسه بعروبته ضخماً بشكل لا يصدق"(5).‏

لكن ماذا حدث بعد أن انتقل "لؤي" إلى دمشق وأقام له مرسماً في منطقة "العفيف"؟ لقد عاش "لؤي" في مرسمه بدمشق أجمل أيام حياته.. كان يقرأ ويرسم الموسيقا بشكل يومي، وقد أحاط مرسمه بطابع شرقي خالص وداخل ذلك المرسم صور عشرات البورتريهات الشخصية لفتيات وسيدات من دمشق.‏

-3-‏

مهارة في تصوير الوجوه وبداية الشهرة:‏

عندما عاد "لؤي" إلى دمشق عام 1961 كان التجريد هو الأسلوب السائد والأكثر حضوراً في الحركة الفنية ولم تكن الواقعية قد وصلت إلى ما هي عليه الآن من تطور، وكانت التسجيلية هي الصيغة التقليدية للتجارب الواقعية التي ظهرت في تلك المرحلة، ومن جهة أخرى كانت المهارة في الصنعة في الرسم حكراً على عدد محدود من الفنانين الرواد، فبرز "لؤي" رساماً من الدرجة الأولى صاحب خط ساحر في رقته وليونته، وعندما اتجه إلى رسم البورتريهات الشخصية أجاد في صنعته وأضاف إلى جمال الوجوه التي كان يرسمها جمالاً آخر يكمن في ذلك الصفاء الذي كان يضيفه على الوجه في اللوحة وفي تلك الرقة اللا متناهية في صياغة الخط ومعالجة اللون، ومن خلال تصوير البورتريهات الشخصية كانت بداية شهرته الفنية في القطر، ثم بدأ الحزن يتسلل بهدوء وعمق إلى الوجوه التي كان يرسمها لسيدات مجتمع أو لأشخاص من الشارع، وهكذا عرف بفنان الجمال الحزين الهادئ الذي يريح النفوس المتعبة، وهذا أجمل تعبير قيل في فن "لؤي"، وباستثناء معرض في سبيل القضية عام 1967 يمكن أن نضيف: بأن الجمال الحزين كان شاملاً تجربة "لؤي" من بداياته في رسم البورتريهات الشخصية إلى موضوعات الأطفال المشردين والأمومة وأرواد ومعلولا.. حتى لوحات الزهور أحاطها بهالة من الحزن الرقيق الساحر.. "لماذا الحزن والألم؟ يقول: "لؤي" لأنني في أعماقي حزين. ولماذا الصفاء؟ إن الراحة النفسية بالنسبة للفنان هي أن يرتبط بالآخرين عن طريق المحبة والصدق والصفاء النفسي"(6) إلا أن تلك المرحلة في فن "لؤي كيالي" أثارت العديد من الآراء كما خلقت له مواجهة مباشرة مع الفنانين الذين عايشهم في كلية الفنون الجميلة بدمشق إثر تدريسه الفن في الكلية عام 1962.. لقد كانت التجارب الفنية القائمة من حوله تعتمد التجريد وسيلة للتعبير الفني، وكان فناناً واقعياً ولم تنل تجربة في رسم الوجوه الأهمية والشهرة التي نالتها تجربة "لؤي" فتسابقت إليه سيدات دمشق وغيرها ليرسمهن كما يشاء محققاً فيهن كما أشرنا جماليته الخاصة في صياغة جمالية الواقع من جديد بشيء من الحزن الهادئ العميق المتمثل في صياغة الخط من جهة ورسم العيون من جهة أخرى، وقد كتب بعض نقاد الفن والأدب عن تلك المرحلة جملة آراء لعل أهمها ما كتبه الناقد الفني طارق الشريف والقاص نصر الدين البحرة.‏

يقول الناقد طارق الشريف عن تلك المرحلة في فن "لؤي": حين عاد "لؤي" من روما لينظم أول معرض من معارضه ويلاقي النجاح الذي كان مفاجئاً، لكل من عرف –لؤي كيالي- وكان هذا النجاح الذي حققه نتيجة مركبة لمواهبه الفنية من جهة، ولقدراته على تنظيم صلات كثيرة مع فئات مختلفة من المجتمع، استطاع أن يوطد علاقاته مع كثيرين، وأحاطته بهالة من التقدير الفني الذي جعله يبيع معرضه الثاني كاملاً قبل افتتاحه، ويرسم اللوحات الكثيرة والوجوه المختلفة التي قادته إلى اكتشاف كثيرات من الراغبات رسم وجوههن بأسلوبه الخطي الحيوي على المساحة الدسمة التي تشبه ملمس الجداريات (الافريسك) والتي تجعل إمكانيات التعبير بالخط كبيرة، لأنه لم يكن يعتمد التعبير عن الحجم باللون، بل بالخط نفسه، ولم يكن يرغب في تقديم الشبه بل كان يضيف إلى الوجوه مسحة حزينة، رومانتيكية أحياناً، توحي للمشاهد بأن هؤلاء الناس يعانون مهما اختلفت طبقاتهم الاجتماعية ومهما تباينت منزلتهم،، سواء كانت تلك الفتاة من مترفي مدينة دمشق، أو من صيادي أرواد، أو حتى لو كانت إحدى زوجات أحد أعضاء السلك الدبلوماسي؟! ومن هذه الزاوية وجد لؤي كيالي سوقاً لإنتاجه الفني مربحاً، وأعطى لهذه السوق ما يريده هو من حزن عميق دفين في أعماقه، يبرز في لحظات التعبير، ويجسد رغباته الأليمة الطفولية،... وبعد معرضه في سبيل القضية لم يعد قادراً على العودة إلى رسم لوحات الوجوه التي رسمها في البداية، لأنه اقتنع بأن تلك المرحلة كانت تمثل لعبة أدخل فيها كي يجر إلى فن بعيد عن القضايا القومية التي أصبح مرتبطاً بالتعبير عنها ومؤمناً بضرورة معالجتها"(7).‏

ويقول القاص نصر الدين البحرة عن تلك المرحلة: "في البداية، عقب عودته من إيطاليا، يوم لم تكن القضية الاجتماعية واضحة عنده، رسم موضوعات فانتازية جميلة، وقدم موضوعات إنسانية عامة، لكن النضج الفكري الاجتماعي لم يضعه في صميم القضية الاجتماعية فحسب، ولم يكن مجرد هم كبير جديد يضاف إلى هموم الفنان، بل كان كارثة بالنسبة إليه. ربما فهم "لؤي" المسألة الاجتماعية مرة، والمسألة الوطنية القومية مرة ثانية من زاوية غير دقيقة، أو غير صحيحة، لكنه في آخر تحليل استطاع أن يصل أخيراً إلى النقطة التي تؤكد ارتباطه بأرضه وشعبه، بأوثق ما يكون الارتباط.‏

وعقب معرضه الثاني في دمشق عام 1962 اجتذبته الأضواء والصالونات المخملية وانصرف يرسم "البورتريه" لرجال هذه الصالونات ونسائها، سواء كانوا عرباً أم أجانب"(8) وفي مقال آخر يقول القاص نصر الدين البحرة: "ودون تمهيد اجتذبته الأجواء المخملية فانصرف يرسم الوجوه وقد بلغت هذه المرحلة ذروتها عامي 1961-1962.‏

حينذاك غضب منه أصدقاؤه الذين أحبوه وفتحوا صدورهم له، ولكنه لم يأبه لذلك فقد كان غارقاً حتى أذنيه، في ذلك العالم الملون... هو الشاب العائد حديثاً من إيطاليا، من لم يتجاوز السادسة والعشرين إلا قليلاً، دون زاد من فكر صلب يقوى به على مواجهة هذه الدنيا اللئيمة باطناً، البراقة ظاهراً، ويمكنه من التمسك في وجه مغرياتها الجمة ومنزلقاتها اللزجة، ما خلا موهبة تتوقد باستمرار.. وتطلعات لا حدود لها. ولم يكد عام 1963 أن ينصرم حتى بدأت الأشياء تتغير في عيني "لؤي" وفكره، وكان معرضه عام 1967 "في سبيل القضية" يمثل ذروة تحوله من موقف إلى آخر ومن أسلوب واقعي إلى آخر تعبيري خالص. فماذا عن هذا المعرض؟‏

في سبيل القضية والتحولات في فن "لؤي كيالي"‏

لا شك بأن معرض في سبيل القضية كان يمثل تحولاً جذرياً في فن "لؤي كيالي"، سواء من حيث الموضوع "التحول من تصوير البورتريهات إلى الموضوع القومي" أو أسلوب التعبير "من واقعية شاعرية إلى تعبيرية صارخة فيها الكثير من خصائص الكاريكاتير"، أو من حيث الجمالية "الانتقال من الرقة والصفاء في صياغة العناصر الإنسانية إلى أقصى درجات التوتر والرعب"، وقد مهد لهذا المعرض بلوحة "ثم ماذا؟" التي تصور الاستلاب والإحباط الذي يعانيه الإنسان..‏

إن "لؤي كيالي" الذي شهد جمهوراً عريضاً بجماليته وشاعريته الرقيقة وبحر الصفاء الذي فرشه بألوان هادئة "بداية الستينات" يقدم في معرض "في سبيل القضية عام 1967" تجربة مغايرة تماماً لما عرف به، وقد أثار ذلك المعرض العديد من الآراء المتباينة عند النقاد في الوقت الذي دفع جمهوره لأن يبتعد عن المعرض بشيء من النفور، لا لموضوعه القومي، بل لطريقة تقديمه... أسلوبه... رؤيته... فأثيرت معارك نقدية في الصحف والمجلات.. أهمها ما كتبه أحد النقاد في مجلة الطليعة السورية التي كانت تصدر عن دار البعث ومما جاء في المقال: "المعرض قبل كل شيء تجربة شخصية، يصور لنا فيها رأيه بالمثقفين وزيف تجربتهم، ويحكم عليهم جميعاً بأنهم خانوا القضية، وهو في الوقت ذاته يصور لنا بأشكال مرعبة شعبنا الطيب البسيط.. إنه لا يصور لنا البرجوازي ببشاعة ولا الرأسمالي بحقده، بل يصور لنا وجوه أبنا "قوات العاصفة" ببشاعة نكرهها، مع أن المفروض أن يصورهم بطيبة نجلها، لأنهم يموتون في سبيل قضية يؤمنون بها، وقد اختاروا موتهم فلا معنى للبشاعة في وجوههم..."(10) ورد أحد الصحفيين بقوله: "لؤي لم يطرح الرأسمالي والبرجوازي في معرضه حتى نحاسبه هل صورهما ببشاعة أو بجمال. وسواء صورت اللوحات الوجوه ببشاعة نكرهها أو بطيبة نجلها، فهذه وجهة نظر الفنان وحده، وهذه (الرؤيا) الفنان للواقع، رغم أن لؤياً لم يطرح الواقع بالبشاعة النهائية والحقد المطلق، فهو قد طرح الجانب السيء والمرعب مع الجانب الحسن المتفائل، ولا أعتقد أن الناقد ينسى الأماكن البيضاء في اللوحات، كما أنه لن ينسى آخر لوحة وهي ذروة التفاؤل في المعرض، بل في الرؤيا كلها، حيث يقف –رمز شعبنا- يرقص ويزغرد في مساحة بيضاء.. بيضاء"(11) وكتب "لؤي كيالي": "أسئلة تطرح ولا بد لها إلا أن تطرح دوماً ما دام هناك استعمار، وما دامت فلسطين العربية بيد الغاصبين الصهاينة، وما دامت الاسكندرون العربية تنادينا في الشمال، وما دامت لنا حقوق مغتصبة من أرضنا العربية وما دام هناك مستعمر ومستعمرَ وما دام هناك إنسان مستغِل وإنسان مستغَل.. من هنا منطلق الأبعاد الحقيقية للقضية، وفي اللحظة التي يتجسد فيها الوعي والإدراك العميق لحقيقة المعركة المصيرية التي نخوضها مع الاستعمار أولاً، وبكل أشكاله وصوره من ثقافية واجتماعية واقتصادية وسياسية يتجسد فهم أبعاد القضية الحقيقية، وليست القضية إلا تجسيداً لقضايا الجماهير الكادحة من شعبنا العربي، وفي اللحظة التي يدرك فيها فناننا هذه الأبعاد الحقيقية للقضية يدرك بأن الفن يجب أن يأخذ دوراً طليعياً في خدمة القضية، ومن خلال هذا الإدراك يكون قد عرف جوهر الفن ومعناه الحقيقي"(12).‏

والشيء المؤكد أن جملة الآراء التي أثيرت حول معرض في سبيل القضية كان لها وقعها الكبير عند فنان مثل "لؤي" يملك حساسية مفرطة حيال العالم وإلا فما هو تفسيرنا لتلك الصرخة التعبيرية الحادة التي واجه بها جمهوره في ذلك المعرض. وقد توقف إثر المعرض عن الإنتاج الفني لعدة سنوات.. عاد بعدها حاملاً معه الصفاء والحزن الهادئ والرقة والشاعرية والجمالية التي شهدناها في بداياته، لكن هذه المرة عبر موضوعات مستقاة من حياة الطفولة المشردة ومعاناة العمال والصيادين، كما عاد أكثر عقلانية وواقعية.‏

عودة إلى الصفاء والحزن الهادئ:‏

في بداية السبعينات عاد "لؤي" ليشارك في المعارض الجماعية الرسمية، وفي عام 1972 أقام معرضه الثامن في بيروت، ثم كان المعرض التاسع في صالة الشعب للفنون الجميلة بدمشق عام 1974، وقد اتسمت هذه المعارض بمعالجتها لموضوعات إنسانية مختلفة "صيادون-أمومة- باعة صغار- معلولا- أرواد- زهور..." وعلى صعيد الإنجاز كشفت هذه المعارض عن عقلانية في صياغة الموضوع ورغبة عارمة في امتلاك أقصى طاقات الخط "الرسم" التعبيرية والجمالية، ومرة ثانية دخل الحزن الجميل الهادئ إلى شخوصه بمنتهى الرقة والصفاء، بل أصبح شاملاً لمختلف الموضوعات، ذلك أن سمة الحزن قد امتدت من الطفل المشرد والصياد الفقير والحمال الصغير، منازل معلولا وزهور حلب وقوارب أرواد، ومن جهة أخرى أحاط عناصره التعبيرية بعالم في منتهى الصفاء والرقة.. وأصبحت لوحاته تباع قبل أن تعرض وأذكر أنه حدثني عن معاناته في معرضه الأخير بدمشق وكيف جمع لوحات المعرض من المقتنين "برسم الإعارة".‏

وما زلت أذكر ذلك الحشد الكبير من الجمهور على مختلف ثقافاته الذي حضر الندوة التي أقيمت لمناقشة المعرض وكانت هناك رغبة صادقة من أجل الحديث عن فن "لؤي" والكشف عن المحبة التي يحملها له الناس. تحدث في تلك الندوة "نصر الدين البحرة، سعيد حورانية- عيد يعقوبي- غازي الخالدي- مصطفى الحلاج- فاتح المدرس- خليل صفية... وغيرهم". ولمحبتهم له لم يتعرضوا لأي نقد بالمعنى العلمي. لم يشيروا من قريب أو بعيد إلى أية نقطة سلبية، بل اتجهوا جميعاً للحديث عن إيجابيات المعرض وكل واحد منهم كشف عن الجانب الذي يعنيه ويتفق مع رؤيته، وبكثير من الحماس والمحبة..، ثم عاد "لؤي" إلى حلب ليعيش رحلة عذاب جديدة، فكبرت آلامه وأحزانه في داخله وبعد فترة باع منزله واتجه إلى روما من جديد، وهناك التقى الفنان ممدوح قشلان الذي حدثنا بشيء من التفصيل عن الأيام المأساوية التي عاشها "لؤي" غريباً في بلد الفن.. وخلال فترة قصيرة صرف "لؤي" كل ما يملك وعاد إلى الوطن.. ليعيش آخر أيام احتراقه التي انتهت بفاجعة رحيله.. مأساة الحركة الفنية.. بل مأساتنا جميعاً، لأن ما حدث للؤي يمكن أن يحدث لأي فنان آخر.. إلا أن حزن "لؤي" كان أكبر مما نتصور.. وكما قال الفنان فاتح المدرس "لو قدر لهذا الحزن أن يخرج إلى الضوء لأظلم هذا العالم ولشفي الفنان"..‏

لقد كان "لؤي" يخفي وراء صفاء عالمه الفني بحراً من الأحزان غرق فيه وحده.. واضعاً نهاية مأساته.‏

هوامش:‏

1و 6 و 13- لقاء مع الفنان لؤي كيالي-مجلة جيش الشعب العدد 1002/14/1971- أجرى اللقاء: الفنان أسعد المدرس.‏

2 و 3-لقاء مع "لؤي كيالي" صحيفة الثورة العدد 4398/22/6/1977.‏

4 و 5-من حديث خاص لنا مع الفنان فاتح المدرس حول حياة وفن "لؤي" في دوما.‏

7-فجيعة الحركة الفنية بالفنان لؤي كيالي-الناقد طارق الشريف- تشرين العدد 1008 تاريخ 5/1/1979.‏

8-من حديث الراحلين في السبعينات: القاص نصر الدين البحرة، صحيفة تشرين تاريخ 15/3/1980.‏

9-"لؤي كيالي" الكبير الذي خسرناه: القاص نصر الدين البحرة، صحيفة تشرين العدد 1006/ تاريخ 3/1/1979.‏

10- و 11-انظر مجلة الطليعة الأدبية التي كانت تصدر عن دار البعث العدد 68 تاريخ 16/7/1967.‏

12-انظر كلمة الفنان لؤي في دليل معرض في سبيل القضية الذي أقيم في صالة المركز الثقافي العربي بدمشق من 24-4-1967 إلى 4-5-1967.‏