International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> احتفالا بالجنون

Article Title : احتفالا بالجنون
Article Author : ممدوح عدوان
Source : السفير
Publish Date : 1980-08-10


احتفالا بالجنون
ممدوح عدوان
السفير الأحد 10/8/1980
هذه مقدمة لكتاب عن الفنان لؤي كيالي ، لصلاح الدين محمد يصدر قريبا عن دار ابن الرشد .
نحن أمة خالية من المجانين الحقيقيين . وهذا أكبر عيوبنا. كل منا يريد أن يظهر قوياً وعاقلاً وحكيماً ومتفهماً. يدخل الجميع حالة من الافتعال والبلادة وانعدام الحس تحت تلك الأقنعة فيتحول الجميع إلى نسخ متشابهة مكررة ... ومملة .
نحن في حاجة إلى الجرأة على الجنون والجرأة على الاعتراف بالجنون. صار علينا أن نكف عن اعتبار الجنون عيبا واعتبار المجنون عاهة اجتماعية .
في حياتنا شيء يجنن. وحين لا يجن أحد فهذا يعني أن أحاسيسنا متلبدة وأن فجائعنا لا تهزنا، فالجنون عند بعض منا دلالة صحية على شعب معافى لا يتحمل إهانة... ودلالة على أن الأصحاء لم يحتفظوا بعقولهم لأنهم لا يحسون بل احتفظوا بعقولهم لأنهم يعملون، أو لأنهم سوف يعملون، على غسل الإهانة.
نحن في حاجة إلى الجنون لكشف زيف التعقل والجبن واللامبالاة ، فالجميع راضخون ينفعلون بالمقاييس المتاحة .. ويفرحون بالمقاييس المتاحة .. يضحكون بالمقاييس المتاحة .. ويبكون ويغضبون بالمقاييس المتاحة... لذلك ينهزمون بالمقاييس كلها ولا ينتصرون أبدا.
بغتة يجن شخص، يخرج عن هذا المألوف الخانق فيفضح حجم إذعاننا و قبولنا و تثلم أحاسيسنا . يظهر لنا كم هو عالم مرفوض و مقيت و خانق .. و كم هو عالم لا معقول و لا مقبول . كم هو مفجع و مبك و كم نحن خائفون و خانعون و قابلون .
جنون كهذا شبيه بصرخة الطفل في أسطورة الملك العاري ، أمر الملك العاري أن يروه مرتديا ثيابه فرأوه . و أمر أن يبدوا آراءهم في ثيابه فامتدحوه و أطنبوا ، و حين خرج إلى جماهيره فاجأه بالصراخ طفل لم يدجن بعد ( و لكنه عار ... عار تماما ) .
لو كان هذا الطفل أكبر قليلا لأتهم بالجنون . و لكن لأن فيه تلك البراءة الواضحة العفوية الصارخة كانت صرخته فاضحة للملك و للحاشية و للمتملقين و للخائفين .
صرخة الطفل ، مثل جنون الفنان ، تفضح كم الناس منافقون و مراؤون و خائفون إلى درجة تجاهل حقيقة يومية بسيطة يستطيع الطفل أن يشير بأصبعه إليها و يعلن عنها ، فهو يرى الحياة على حقيقتها دون رتوش و دون تلوين بالمطامع و دون مكياج بالتبريرات ، و في أعماق كل فنان طفل صادق بهذا المقدار ، طفل لا يحتمل ما تعودنا على احتماله ، طفل يبكي حين يتألم و يصرخ حين يجوع و يغضب حين يهان و يجن حين يجبر على أن يحيا حياة الحيوان .
و أنل أريد أن أكتب عن لؤي كيالي لأنني أريد أن أحتفل بالعثور على مجنون حقيقي ، إنسان كانت لديه الجرأة على إعلان جنونه دون أن يهتم للآخرين الذين انشغلوا بالتغطية على هذا الجنون و كأنه قد كشف عوراتهم و مخازيهم ، فاختيرت لحالته أوصاف لبقة مثل أزمة عصبية ( انهيار عصبي ) و ( تعب أعصاب ).
و يزداد الضغط باتجاه استخدام مثل هذه التعابير اللبقة بعد موت لؤي بدعوى احترام الميت و حرمة الموتى ، و لكن من المهين للحياة أن لا نرى الجمال إلا في الموتى ، و أن لا نقدر الناس إلا بعد موتهم و أن لا نجرؤ على رؤية من يموتون مثلما كانوا في حياتهم فعلا .
و أنه لمن المخزي أن نمنح الموتى قيمة أكبر مما كنا نمنحهم في حياتهم . و خاصة حين يكون الميت فنانا ، فالفنان ليس ملكا لحساسيات الأهل و الأصدقاء بل هو ملك لنا جميعا و قيمة في حياتنا جميعا و من حقنا أن لا نسمح أن يقوم شيء في حياتنا على وهم أو خطأ .
لؤي كان مجنونا طوال سبعة أعوام : من عام 1967 حتى عام 1973 ، يجب أن لا نخفي هذه الحقيقة من حياته ، بل يجن أن نعلن عنها و نشير إليها باعتزاز . يجب أن نقول أن لؤي كيالي من بقايا المستحاثات البشرية التي ما يزال لديها أعصاب و حساسية و كرامة . و أن هذه المميزات هي التي جعلته غير قادر على التواؤم مع عالمنا اللامعقول فجن و أربكنا.
إن ما يبدو في ظاهره حب للؤي ومجاملة له هو كره للؤي ونيل منه بالتعتيم على امتيازه العظيم و مجاملة لأنفسنا ، فهناك دائما أناس تريد أن تكرههم لأن حساسيتهم تسبقك و لأن انفجاراتهم تدين هدوءك و تفهمك و عقليتك .
و أنا لا أكتب الآن سيرة بكل يستطيع أن يصمد ، و لا عن رجل سياسة يستطيع أن يلف و يدور و يبرر . إنني أكتب عن فنان . أي أنني أكتب عمن له الحق أن يكون ضعيفا إذا كان ضعيفا .. و عمن له الحق أن يوصله ضعفه إلى الجنون .
دعونا نعترف الآن بأبسط الحقوق الطبيعية : أعني حق الفنان أن يكون إنسانا طبيعيا و أن لا يكون مدجنا و مألوفا . و هنا لا أطالب باعتباره خارقا لكنني أطالب بحقه في أن يبكي ألما حين يحجب الناس دموعهم و يعتبرون حجبها قوة ، و حقه في أن يسكر حين يشرب و أن يجن حين يختل التوازن القائم بين عالمه الداخلي و العالم الخارجي .
لؤي كيالي نموذج يحتوي على كل المواصفات التي تستطيع أن تهاجمها ، و لكنه يحتوي أيضا على كل المواصفات التي تحب أن تدافع عنها .. لعل ما يدفعني إلى الكتابة عنه هو أن الكتابة عنه فرصة للدفاع عن البديهيات المغيبة عن حياتنا .
هذا الرجل لم يتقولب فناناً ولم يتقولب سياسياً أو بوهيمياً أو ثورياً، احتفظ بكونه إنسانا وحين مر في تلك المراحل كلها مر بها كإنسان وعاد منها كإنسان .. ولأنه إنسان فقد عاد منها بندوب و كدمات و عاد منها مثلوما و مجرحا و مضرجا و ممرغا مثلما هو الإنسان العربي الآن .. مع فارق أن لؤي لم يضع مكياجا على ندوبه . ارتكب مجموعة من الأخطاء و الحماقات المضحكة و لكنها كانت دلالة على أنه إنسان لا يريد أن يكون خارقا إلا في قدرته على الاحتفاظ بحقه في الجنون حين ينهار العالم من حوله بهذا المقدار و يسود الكذب من حوله بهذا المقدار.
وما يهمنا في جنون لؤي أنه ليس صرعة فنية . أي أن لؤي لم يكن مجنونا في إبداعه . كما كنا نتمنى بل كان مجنونا في حياته فقط . لو أن جنون لؤي انعكس في إبداعه لقدم في لوحاته صورة عن عالمنا المهين و اللامعقول أو إدانة لهذا العالم أو بصقة عليه .
لكن لؤي لم يكن قادرا على فعل ذلك ، لأن الذي يفعل ذلك يكون قويا قادرا على الرؤية و التعبير عنها .. و قادرا على إبقاء الخيط بينه و بين الناس ليجرحهم و يثير اهتمامهم . و لهذا كان لؤي ذلك المجنون الخاص المنهك ، و لم يكن له ذلك الجنون الممتع الذي يتوجه إلى إثارة اهتمام الآخرين ذلك أن ( أكثر أنواع الجنون شيوعا ، كما يقول مارك توين ، هو الاستمتاع بإثارة اهتمام الآخرين ) .
إن جنون لؤي كان كما يصفه طبيبه الدكتور عبد الخالق سلطان ( مرض النفاس الدوري ) و يذكر الدكتور العوامل المهيجة ومنها النفسية و الاجتماعية و الأسرية ( ولا يذكر السياسية ) .
لم يستطع لؤي أن يقدم فنا مجنونا ربما لأن اضطرام عالمه الداخلي كان أشد عصفا و عنفا من أن يجد بديله الموضوعي في لوحة .
لقد تعكر عالمه الداخلي و اضطرب قبل جنونه .. منذ أن انتقل ذلك الانتقال الفجائي من عالمه الدعة و الترف و المجد إلى عالم البؤساء و القضايا الملحة و حاول أن يعيش هذا العالم و يكتشفه و ينفعل به و يعبر عنه .
أهم حدث في حياة لؤي كيالي ما كان يتهامس به الوسط الثقافي في أواسط الستينات من أنه ( انتقل من رسم كلب زوجة السفير إلى رسم الفقراء ) .. و أنا لا أعرف أنه رسم كلاب زوجات السفراء لكني أعرف أنه رسم الزوجات فعلا .
كان لؤي إنسانا سعيدا، شاب جميل ناعم له علاقات ممتازة مع أوساط مريحة و غنية و هو فنان ذو شهرة ، ولوحاته تباع بأسعار عالية .
و في أواسط الستينات ظهرت موجة إعلامية و ثقافية ، كانعكاس لوضع سياسي ، تؤكد على الفكر التقدمي و على الاشتراكية و الصراع الطبقي و الكادحين و الفقراء و الالتزام بالجماهير .
و بدأت هذه الموجة تنال من لؤي و تطرح عليه أسئلة محرجة ومن خلال الاحتكاك و المماحكة بدأ يتنبه إلى واقع غير الواقع الذي كان يعرفه و الذي تعود أن يتعامل معه بفنه . حاول أن يكتشف الواقع الذي أرهقوه بالحديث عنه ...اكتشف فقراء .. وجائعين ... اكتشف صيادين و حصادين و أطفالا مشردين .. و اكتشف قضايا يموت الناس من أجلها و هي تستحق ذلك . و اكتشف عذابات يعيشها الناس .. اكتشف حياة لا تليق بالبشر . و افترض لو أنه اضطر للعيش فيها لما قبل . أي عالم هذا ؟ و كيف يمكن احتماله و كيف تتم مقاومته؟ و كيف يتواءم الناس أربعا و عشرين ساعة مع حياة كهذه ؟ لا شك أن الثقل كبير و لكن هؤلاء جبابرة لكي يستطيعوا احتمال هذا كله ، كانت النتيجة معرض ( في سبيل القضية ) في أيار 1967 .
قال لؤي عن معرضه هذا بأنه ( تجربة مر بها من أجل اكتشاف القضية ) و لا بد أن التجربة كانت مفزعة و كابوسية . و قد انعكس هذا في معرضه المذكور . فقدمت لوحاته أناسا مذعورين من هذا الواقع لكنه قدمهم أجلافا غلاظا و أقوياء .. ذوي ملامح قاسية و أطراف ضخمة .. يحملون أعباء داخلية مضنية و خارجية مرهقة، يسحقهم هذا الواقع و لكنه لا يخضعهم ...
لم يكن يستطيع أن يفعل غير ذلك أمام رغبته في الانتماء إلى هؤلاء الناس و أمام ذعره مما اكتشفه في حياتهم فأسقط ذعره عليهم .
و كان لؤي و هو ينتقل هذا الانتقال النوعي يحس أنه يضحي . لقد قدم تنازلا هاما و خطيرا .. تنازل عن جمهوره السابق و نماذجه السابقة و سمعته السابقة و مرابحه السابقة .. فكان لا بد أن يفقد راحته الداخلية السابقة و انسجامه مع عالمه السابق .. و كتعويض كان يتجه بفرح و حماس إلى اكتشافه الجديد .
و لكن معرض لؤي هذا ووجه بعاصفة من النقد الشخصي و الفني . و كان لؤي يستطيع أن يقاوم صدمة كهذه. و حتى حين لم يشتر الجمهور أي لوحة من المعرض كان يستطيع أن يفهم أن هذا الجمهور الذي اختار
أن يتوجه إليه بفنه لا يستطيع أن يشتري لوحات فنية أو لم يتعود أن يشتري لأنه لا يهتم بذلك .
لقد خلع لؤي عنه جمهوره و كان من حقه أن يتوجه بثقة و عناد إلى جمهوره الجديد على الرغم من الحوارات المضنية التي حاصرته متهمة بأنه يتراجع في الشكل و الصياغة لصالح المضامين الجديدة التي طرحها .
و إلى جانب هذه الحوارات كانت تأتي حوارات أكثر إرهاقا .. حوارات تحمل العنوان الفني لكنها في حقيقتها حوارات سياسية .
التوجه ، الذي كان سائدا في ذلك الحين ، نحو الالتزام , قدم في الحياة الثقافية جدانوفيين ما زالوا و أشباههم حتى الآن يحاولون ممارسة طغيانهم ـ يطرحون أسئلة خانقة تطالب الفنان بأن يقدم في إنتاجه تعويضا عن كل ما يفتقده الناس في واقعهم ، يعوضهم عن الجيش و وزارة الاقتصاد و التربية و الصحة و التنظيم الثوري و التنظير الإيديولوجي ، إضافة إلى عبء الغباء الذي لا يعرف كيف يحاور الفن بل يعرف كيف يقوم باستجواب أمي قمعي في زنزانات نقدية .
و كان لؤي الذي لم ينضج في اتجاهه الجديد بعد ، يحاول ، يائسا ، أن يقدم الإجابات تلو الإجابات . إلا أنها كانت إجابات مورطة ، من الناحية النظرية ، و مسيئة لجهده هو مثل قوله إنني أرسم الفقراء في لوحات يشتريها الأغنياء و هكذا أدخل الفقراء إلى بيوت الأغنياء ، أو قوله في شرح لوحته ( ثم ماذا ) إن الرجل في وسط اللوحة يميل رأسه لأنه يحمل عقدة ذنب نابعة من ندامته على بيع أرضه .
هذه الإجابات كانت ورطات ساذجة لا بد أن يقع فيها واحد مثل لؤي يواجه نقدا من نوع : هذا الطفل لا تحمل عيناه تباشير الثورة أو : ( إن تصوير الشعب المناضل بهذه الصورة المفزعة المرعبة خروج عن واقع المناضل.. الواقع المتفائل في مادته و صورته . كان على الفنان أن يظهر هذه اللوحات المعبرة بشكل متفائل يتمشى مع ما نريده من التفاؤل و مستقبل الثائر العربي ) .
و لقد واكبت هذه الحملة النقدية الغاشمة لؤي كيالي طوال حياته فيما بعد ، و صنعت حوله جحيما من الاتهامات و الانتقادات و التساؤلات . و حتى في معرضه الأخير ـ قبل موته ـ واجه عاصفة مشابهة لخصها الدكتور سلمان قطاية على النحو التالي :
( أما الضجة فهي سوء تفاهم يقع فيه كثيرون من الفنانين .. لؤي دخل في شروح أبعدته عن هدفه و أدخلته في متاهات و مناقشات فكرية يعجز عن التفوق فيها، ومن هنا انطلقت الشرارة : لؤي يؤكد أن لوحاته تدافع عن القضية، ولكن خلال المناقشة ظهر للقضية عنده مفهوم خاص جدا بل و باهت، وأصر المناقشون على البحث في لوحاته عن هذه القضية كما أصروا على عدم وجودها ) .
لنا أن نتصور هذا الإنسان ـ الذي اعترفنا بحقه أن يكون ضعيفا ـ و هو يواجه هذه كله في أول معرض له في اتجاهه الجديد . و خاصة أنه كان يحس أنه ( يناضل ) فعلا عبر لوحاته . و أنه كان قبل ذلك مقصرا وأن الآخرين ربما سددوا له خطاه أو أن الآخرين متآمرون يقفون ضد الشعب .
و في هذه المرحلة بالذات تقع هزيمة حزيران ...
و لم يكن من الممكن للؤي أن يتماسك أكثر من ذلك، لؤي اكتشف الشعب لكنه لم يكن مؤمنا به الإيمان الكافي ولقد كان اكتشافه للشعب مرتبطا باكتشافه للنظم السياسية و طروحاتها المتفائلة ، و حين هزمت هذه الأنظمة هزم لؤي من الداخل و أحس بنفسه عاريا.
إن هزيمة حزيران لم تنته حتى الآن وقدرتها على دفعنا إلى الجنون تتزايد كلما أمعن العرب الذين مرغتهم في تناسيها و تغليفها بسلوفونات الانتصارات الكاذبة و الثورات الوهمية .
من لم يعش أيام حزيران و ما تلاها لا يستطيع أن يفهم لماذا نقول أنه من المبرر أن يجن بعض الناس أو أن من الواجب أن يجنوا .. و بالتالي لا يمكن أن يفهم ماذا حدث للؤي .
لم تكن الهزيمة مفجعة لأنها هزيمة جيوش و حكومات .. بل كانت مفجعة بدلالتها على حجم العجز في حياتنا و الغبن اللاحق بنا . و لم يكن ما يدفع إلى الجنون حجم الخسارة بل أسلوب المعالجة : القفز فوق الهزيمة و منع التحدث عنها و إهمالها و تجاهلها .
لم يكن أحد يتصور أن من الممكن تحطيم ثلاثة جيوش ( المصري و السوري و الأردني ) مع المساهمات العربية الشكلية ـ و الإعلامية ـ الأخرى في ستة أيام بل و في ست ساعات بمعنى إنهاء الفعالية العسكرية وإن من الممكن أن نخسر أرضا بحجم سيناء و الضفة الغربية و محافظة القنيطرة في زمن أقل من الزمن اللازم لانسحابنا منها أو لمرور العدو من أقصاها إلى أقصاها ( و حتى دون حرب ).
ومع ذلك أو الأنكى من ذلك ، كان المواطن العربي الذي هزم دون أن يحارب و الذي خيضت الحرب باسمه و حمل أعباء الهزيمة ، مقموعا إلى درجة أن الحكومات كانت قادرة على منعه من الكلام عن هذه الهزيمة ، إن ذكر القنيطرة أو الهزيمة أو القول : إنني متألم للهزيمة كان يعد بطولة استثنائية شبيهة برشق القصر الجمهوري بالحجارة .
كيف يمكن إخفاء هذا الفيل ـ الهزيمة ـ في هذا الكيس الرقيق ؟ بالمزيد من التجاهل و التجهيل و القمع ، و بالمزيد من الكذب و الأقنعة النظرية . كيف يمكن أن نمنع الدمعة ؟ بإطلاق النار ـ أو التهمة ـ عليها ... كيف يمكن أن تسجن النهدة ؟ بتهديدها بمدفع الدبابة... الدبابة ذاتها التي لم تحارب العدو ورغم شهدائك و أرضك المسلوبة و كرامتك المداسة صدَق أنك لم تهزم و صدَق أكثر من ذلك أن الأمور على أحسن ما يرام و أنك منتصر وإن عليك قبول الكلام ذاته و الشعارات ذاتها و الأشخاص أنفسهم كأن شيئا لم يقع .. و كأن ما حدث لم يكن إلا زخة مطر من غيمة عابرة بللتك قليلا .. و ها أنت قد جففت هذا البلل .
إن تذكر تفاصيل تلك الأيام يؤكد أن العالم من حولنا كان قد تحول إلى مستشفى للمجانين تقوم بينهم علاقات لا معقولة و لم تنزل في قاموس .. و في المستشفى كان العاقل الوحيد ، تقريبا لؤي كيالي و لذلك اعتبر المجنون الوحيد .
كانت الحياة لا تطاق، و الذين كانوا يحسون بها على هذا النحو انقسموا إلى قسمين : قسم يرى أنها ليست حياة .. و بالتالي قد استوت بالموت .. ولا شك أن إحساسا كهذا قد ساعد على نمو العمل الفدائي و رفع وتيرة عملياته .. و قسم آخر بقي في الحياة الأخرى ليواجه لا معقوليتها فكان لا بد أن تكون إجابته عليها لا معقولة .. أي بلا عقل .
كان لؤي قد دعا نفسه ، أو دعي و استجاب ، إلى التحديق في الواقع ، ففعل واكتشف ...ووقف عند اكتشافه.
وحين تمت اللعبة الانقلابية في الحياة كخداع للذات عن مواجهة الهزيمة كان لؤي ما يزال واقفا عند الطرف الآخر .. فبقي وحيدا و ظل يعيش ( كما يرى ) .
انهار لؤي .. و انهار توازنه و انهار ارتباطه بكل شيء كما انهار إيمانه بكل شيء و كطفل يغضب من أمه أو من أخيه فيحطم ألعابه.. عاد لؤي إلى بيته زعلانا من وطنه فأتلف لوحات معرضه كاملة .
كان لؤي يحتمل كل شيء لفرحه باكتشافه الجديد و لثقته بالانتصار . بصبر و جلد كان يخوض تلك المحاكمات الكلامية و كان يصمد أمام الاتهامات .. و لكن كل شيء تبدى له فيما بعد سرابا.
كان لؤي قبل تورطه في القضية يعيش حياة هادئة مجانية سهلة ، ثم تسرب إليه القلق الوطني و قبل أن يتمكن من التواؤم معه .. و حين كان ما يزال في مرحلة ( التجربة من أجل اكتشاف القضية ) وقعت الهزيمة .
الهزيمة الآن كلمة سهلة لكنها في ذلك الحين كانت انهيار بنيان هائل من الثقة بالنفس و الإيمان بالمستقبل و الاطمئنان إلى الذات و الغرور الوطني و الاستهتار بالخصم و تصديق القيادات السياسية.
كان بإمكان لؤي أن يمسك بتلابيب نقاده الجدانوفيين و يصرخ في وجوههم ، أهذا هو المستقبل الذي كنتم تعدونني به و تطالبونني باستشراقه ؟ و حتى حين غرق الجو العربي بالكلام ، بالكلام المعبر عن القرف من الكلام ، و بالقفز فوق الهزيمة للتشبث بإشراق المستقبل النظري . كان يمكن للؤي ـ و نحن معه ـ أن يقول- الآن و في ذلك الحين – ( أيها السادة الذين طالبتموني قبل أربعة عشر عاما بأن أكون متمشيا مع الواقع المتفائل و حين طالبتم أن تكون لوحاتي متفائلة و متمشية مع ما تريدونه من التفاؤل و مستقبل الثائر العربي .. شرفوا الآن و دلوني على ملامح هذا المستقبل الذي كنتم تشنقونني من أجله من ذلك الحين ) .
لا نستطيع أن نقول أن لؤي قد تنبأ بالهزيمة . و العذاب الذي كان يتأجج في أبطال لوحاته كان نابعا من تقديره لإحساسهم بوصفهم أو من إحساسه هو بوضعهم و لو كان معرض لؤي كيالي قد تأخر شهرا واحدا فقط أي أنه لو عرض بعد الهزيمة لا قبلها، لاكتسبت تلك اللوحات أبعادا سياسية جديدة و لما كان في وسع أولئك النقاد الجلادين أن يتحدثوا عن التفاؤل و التشاؤم و المستقبل الثوري .
لكن ما حدث أن المعرض أقيم قبل الهزيمة و لذلك سارع لؤي إلى بيته ليتلف اللوحات معلنا يأسه من كل شيء.
و كما رأى لؤي دمار العالم أراد أن يكون دماره .. لقد تحول إلى كتلة من الأعصاب العارية من جلدها . و صار أي شيء قابلا لدفعه إلى الحد الأقصى من الغضب أو الحزن .... أي شيء ... خبر سياسي ... كلمة عابرة ... تحية من شخص ما ... منبه سيارة ... خطاب سياسي ...
في أتون الهزيمة تولدت لدى كل إنسان الرغبة في إعادة النظر في تفاصيل الحياة كلها ... الاجتماعية و السياسية و الثقافية ... و حتى الحياة الشخصية ... إلى درجة أننا صرنا نطيع شارات المرور أكثر وكان هذا دليلا على إحساس الجميع أن الهزيمة لم يلحقها بنا العدو بل ألحقها بنا تخلفنا و ضعفنا و انعدام إحساسنا بالمسؤولية و الخطأ الذي تقوم عليه علاقاتنا اليومية و الدائمة .
في حالة كهذه إما أن ينشغل الإنسان بهذه المراجعة الشاملة و إما أن يقف مصعوقا أمام حجم الخطأ في الحياة . و كما أن لؤي كان قد اكتشف الواقع من قبل كذلك اكتشف الخطأ و لكن بعد أن كان هذا الخطأ قد شطره إلى نصفين . و لهذا لم يعد قادرا حتى على التعبير عن رؤيته هذه بالفن بل استهلك أعصابه في المواجهة اليومية للحياة .. فجن و لم يقدم فنا مجنونا .
و بمقدار ما نستطيع أن نتحدث بهدوء عن حالة لؤي لندينه ، نستطيع ، لو أننا نظرنا إلى الأمر من زاوية أخرى، أن نرى في جنونه موقفا يدعوا إلى الاحترام . لم يكن جنون لؤي فقدانا مجانيا للتوازن العقلي بل انفجارا مدمرا في الحساسية و هذه الحساسية هي التي يمكن أن تديننا نحن الذين كنا نفتقدها فاستطعنا أن نتابع حياتنا بهدوء و اتزان ، حتى التعود ، فالنسيان .
لقد جنَ لؤي لأنه لم يعد يطيقنا ، و جنَ فكشف أن حياتنا تجنن و تطقق العقل .
و حين شفي لؤي في عام 1973 عاد إلينا فرآنا ما نزال على حالنا فيئس حتى من الجنون والحقيقة أنه لم يشف بل رأى حجم الفجائع أكبر من أن يستوعبها الجنون ذاته و لذلك وقع في خليط من الجنون و العافية ، و بين أسلوبه القديم و اكتشافاته الملتزمة ، بين صخب العالم الداخلي و الراحة التي صار يحن إليها و قد أرهقه التعب . لم يعد يجد ما يستحق ما يرتبط به . لكن القلق الوطني كان قد جرثم عمره فلم يعد قادرا على العودة إلى دعة أوائل الستينات ، و لما كان غير مؤهل للعمل بين الجماهير و لما كان مرهقا من الكلامولوجيا العربية انصرف إلى حياة اللهو المريض الذي يمكن شراؤه . انصرف إلى الخمر و الكباريه و الفن الرخيص المبتذل و المخدرات . و كان هذا إضرابا علنيا عن كل ما يدعي أنه جدي في الحياة المحيطة به .
و مقابل ذلك ، و أمام حنينه إلى أيام تعود على نفسه فيها أن يكون فنانا ، صار يرسم . ليس صدفة أنه أكثر من رسم الزهور أو أنه كرر لوحات سابقة أو أنه كان يرسم بناء على طلب الزبائن . لقد انتهى الفنان تحت رماد المعاناة . و حين كان هذا الفنان يستفيق ، كان يرسم عالما هادئا ساكنا : زهور و قوارب ، و حتى حين كان يرسم شخصيات بائسة كالصيادين و الباعة المتجولة كان يقدمهم بائسين ضمن عالم صاف و هادئ .. و مستسلمين لحالة كأنما لا فكاك منها و لم يعودوا أقوياء متألمين و رافضين كما كانوا في معرضه الأول ، و لا شك أن ذروة ما تبقى في النفس من مرارات هي لوحته التي تظهر عجوزا متسولا و حين سئل عنها قال إنه واحد من ثوار الثورة السورية يتمدد للتسول أمام المكتبة الوطنية بحلب .
أعتقد أن لؤي كيالي بدأ فنانا ثم انتمى و لم يكن انتماؤه ( و في تلك المرحلة من الانتماء الناقص أعطى إبداعا استثنائيا ) ثم صار ثمرة طبيعية للحياة التي نعيشها . صار مجنونا ثم يائسا .. ثم ضائعا .
في نظرة إلى موجز حياة لؤي نكتشف كم من الطاقات المشابهة تهدر في وطننا . بحسرة و مرارة نقول أن لؤي فنان كان يمكن أن يخترق الحدود و المألوف و لكن وطننا ، بسياسته و ثقافته و هزائمه و ركوده ، دفعه إلى الجنون ، و بعد أن تجاوز الجنون لم يجد إلا الخواء . فكان لا بد أن ينتهي إلى الضياع فالإدمان فالخطأ المميت الذي حدث ذات يوم و الذي كان من الممكن أن يحدث في أي يوم آخر لأن لؤي كيالي المبدع قد مات منذ زمن .
إن حوادث العنف و حوادث السير و الحروب و المشاجرات و إطلاق النار في الأفراح حوادث مليئة بالضحايا وهذا كله تعودنا عليه .. أي أننا تعودنا على أن لا تعني حياة الإنسان لنا شيئا ( بقيت مرحلة صغيرة تصبح فيها حياة كل منا لا تعنيه ذاته ) .. صارت حياة الإنسان رقما يدخل في باب الطرائف و المنوعات .
و لكن حين يسقط علم من حياتنا في حوادث من هذا النوع نجدنا مدفوعين بجرأة إلى النداء : أوقفوا هذه الحوادث لأنها أفقدتنا علما ، و حين تتمكن حياتنا المخزية من أن تضيع علينا موهبة مثل لؤي و قبل عشر
سنوات من موته تجرؤ على النداء : اجعلوا الحياة من حولنا معقولة لكي نظل بشرا .
مات لؤي كيالي محترقا ، و كان قد عاش محترقا .
تتأمل هذه الحياة الحافلة كلها و ترى نهايتها فلا تجد إلا عزاء واحدا . الفنان الذي يموت يظل له وجوده الخاص متمثلا في لوحاته الموزعة في بيوت لم يعرفها و لم يعرف أصحابها . و يظل له حضوره في الفن الذي خدمه و الحياة الذي خدمها هذا الفن ...
و لعل هذا الكتاب أن يكون جزءا من حضور لؤي المستمر بعد موته . لقد بذل صديقه الناقد – صلاح الدين محمد – جهودا كبيرة لجمع كافة التفاصيل المتعلقة بحياة لؤي و فنه . و لا بد أن القارئ سيلحظ هذا الجهد عند قراءته الكتاب .
و لا نستطيع أن نتوقع من صلاح الدين محمد إلا كتابا من هذا المستوى ، لأننا لم نعرفه في مقالاته في الصحف عن الفن التشكيلي إلا مجدا و ملما بموضوعه مما ميزه منذ مقالاته الأولى عن كثير من الكتاب الذين يتابعون الفن التشكيلي نقدا و مراجعة .. بل و قدمه إلى الصف الأول بين النقاد العرب .
و حين قرأت الصيغة الأولى لهذا الكتاب سررت لأنني وجدت فيه محاولة مخلصة لرد الاعتبار للؤي . و كانت لي ملاحظة قلتها لصلاح : جاهد أن لا يحس القارئ بصداقتك للؤي . لأن كتابك يجب أن يحافظ على موضوعيته .
و لا أعرف إن كان صلاح قد أخذ بملاحظتي .. لكني الآن أتساءل ما إذا كان يجب أن يأخذ بها .
إن الإخلاص للفن وحده لم يكن يكفي لبذل هذه الجهود التوثيقية و التفصيلية .. لا بد أن الإخلاص للصديق قد امتزج بالإخلاص للفن .. فهل من الممكن أن لا يظهر إلا أمران معا ؟ و هل يجب أن لا يظهرا ؟
أو ليست الصداقة هي التي جعلتني أقبل شاكرا أن أكتب تقديما لكتاب في النقد الفني كان يجب أن يقدم له ناقد مختص غيري .
في النهاية .. يقف لؤي بفنه .. و يقف صلاح بكتابه .. و نقف جميعا أمام القراء .. و الزمن .