International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> المبذرون

Article Title : المبذرون
Article Author : ناديا خوست
Publish Date : 1985-01-16


المبذرون
بقلم الدكتورة ناديا خوست
هنا دمشق العدد 206 16/1/1985
ممر طويل ... من جانب جدران وأبواب، ومن الجانب الأخر مطل على ساحة دون حديقة . للقلب رفة واحدة عندما تحط النظرة على الأشجار القليلة ، وعلى فسحة من السماء . ثم السقوط على باحة مرصوفة بإسمنت صحراوية صماء، لا ماء ولا عشب مع أن المؤسسة تربوية و الفسحة تحت السماء .
فجأة تتوقف عندما ينفتح أمامك الباب وفي صدر الغرفة لوحة ! لوحة في هذا القفر من الإسمنت و الممرات . والحدائق و الباحات التي تحولت إلى غرف و جدران ؟ يرعشك اللقاء ! من وحدة اللوحة في المكان ؟ لا لأنك لقيت صديقا تعرفه من زمان... و الصديق الغائب في كامل رونقه، تكاد تناديه في لهفة باسمه لؤي كيالي، الفنان المعذب الجذاب . يشدنا إليه وضوحه ، كأنه ممن ينظرون إلينا بصفحة الوجه ، و بالقامة الفارعة . و أنه مات معذبا ، دون أن ينال في الحياة ما يجب له من معرفة و احترام ، و من غيرة الأرض على من ينتج فيها زهرها النادر الثمين. تلتم على نفسك أمامه ، من الشعور بالذنب ، ومن الحزن على الضائع المهدور، و تتأمل في أسى ما لن يعود .
اجتمعت في لؤي كيالي الموهبة و النكران، و الفاجعة. فكيف تصدر هذه الغرفة البعيدة ، في بناء مليء بالأوراق و المعاملات التي تكتم الأنفاس ؟ و كيف قدر فوضع في الصدر ؟
وجده رئيس تحرير مجلة المعلم العربي ... أتت لوحة الفنان في مناسبة ما ، أو صدفة ما إلى هنا . فالعرف أن المدارس دون علاقة بالفن و اللوحات . علاقة الطلاب بالفن ، علاقة الإنسان بالألوان الفجة الخامة .. في الشجرة أو السماء أو الأرض . يتذكرها الطالب في درس الرسم : " ارسم الربيع ! . الشتاء ! " . وصلت اللوحة إلى هنا بطريقة ما ، و لكنها سقطت في السياق ..
أصبحت اللوح الذي توضع عليه الفناجين و السكر و الشاي و القهوة في غرفة الآذنين .
كيف يخلََص الرجل الدهش المفجوع ، اللوحة من وظيفتها الجديدة ؟ تعوَد مالكها الجديد طولها و عرضها و مساحتها المفيدة، إذا افتداها بلوحة أخرى يجب أن تكون اللوحة في عرضها ، في طولها ، للسكر فيها مكان و لعلبة الشاي و الكؤوس مكان ! و لكن ها هي اللوحة تحلو في عين من تنبه إلى قيمتها الأخرى و يصحو حق الملكية المقدس . كيف يتنازل الآن عن لوحة يملكها ؟ بالتبادل ! أية لوحة تنتقون ؟ نريد لوحة من تلك التي يرسمها الطلاب و تعرض في آخر السنة المدرسية . المقاييس هامة ! يجب أن تكون كبيرة : في حجم هذه أو أكبر، و لا أصغر . و يجب أن يكون فيها شجر و سماء و غيوم و بيت من القرميد . شيء من ذلك . و لتكن في طرف اللوحة بحيرة تنعكس فيها السماء و الأشجار و البيت .
هكذا افتدى الرجل لوحة لؤي كيالي . وضعها في صدر الغرفة . لكن اللوحة في أمان اليوم فقط ، لا في الغد . فكل منا يشعر بأنه عابر لا يترك أثرا أو تقاليد .
إنه لا يبدأ في نسيج متماسك ، لا يبدأ مما تركه الآخرون . فالمعمول الوحشي يقص أبدا شجر الأمس، و الريح الجائحة الطفيلية تنثر في الهواء حتى الصخور الصلبة ، و تقيم مكانها السوقي الهش. نقول منا يبدأ تاريخ الفن و العلم و الثقافة ، كأن ذلك قوة و فضيلة !
... وتعصف رياح العالم الثالث ، فلا تتراكم فيه خبرة أو تجربة ، و لا تقوم فيه صلة بحضارة الأمس . يأتي من بعدك إلى بيت أو وظيفة فينظفها من أثارك ،و يحرق أوراقك و خطواتك ، و يقلب المكتب و الكرسي ، و يمد ورق الجدران و يبدل وجوه الأرائك . في هذه الشروط هل تبقى لوحة لؤي كيالي في صدر غرفة من ذلك البناء ، مدللة و لو في عزلة ، وارفة و لو في جزيرة نائية ؟ أم تضيع من جديد في بوفيه ما ، في سقيفة ما ، حيث تظهر حاجة إلى لوحة من خشب ؟ يخطر لك أنك كي تحفظ الأثر القديم يجب أن تنقله إلى ملكيتك الخاصة ، إلى بيتك ، تقدسه و تستمتع به و تحميه هناك ، حتى يعود في زمن قادم ما ، إلى مكانه الواسع من وطن .
نذكر دون أسى أن معرض فان غوغ سافر في حراسة ، و أن اللوحات فيه جمعت من بيوت متفرقة في بلاد متنوعة ، و أن مواطن اللوحات مسجلة و معروفة و لو كانت في الملكية الخاصة ، كي تجمع وقت الضرورة في معرض يلم خطوات الفنان كلها فلا يبقى فيه مجهول عمن يريد أن يرى صورته الكاملة .
و كثيرا ما نقرأ في مطبوعاتنا و جرائدنا أخبارا عن حركة اللوحات العالمية من بلد إلى بلد ، ومن مزاد إلى مزاد، أو من مكان كانت فيه مجهولة و ضائعة إلى عرشها الجديد في الثروة الفنية البشرية . و كثيرا ما نتفرج في إعجاب على الأفلام التي ترصد خطوات الفنانين الأولى الضائعة أو المرفوضة ، و نبتهج بانتصار الفن بعد المعاناة . لكن جدار يرتفع بين ما يدهشنا ويبهرنا وما نرصده ، وبين سلوكنا لا يخطر لنا أن نحمي الثروة النادرة في بلدنا ، ونكشف الفنانين السوريين الذين تضيع لوحاتهم أو تسافر إلى البلاد الغريبة . و لا تجد طريقا إلى الجدران المتجهمة في المؤسسات و في المدارس .
عاش لؤي كيالي بيننا ومات على مرمى نظرة منا ومع ذلك مات مجهولا و منكرا . لم يقم في حلب ما يشير إليه . سألنا هناك عن متحف مكرس له ، نراه فيه ، فنظروا إليه في دهشة وكأن طلبنا هو الخرق، كأن الواقع الذي لا يعتز فيه بلد بما فيه من ثروة نادرة ، و لا يظهرها و يحميها ، هو الحدث الطبيعي ، و الأمر الواقع الذي لا يمكن أن يقع سواه . كيف يصبح بلدا غنيا و مضيئا ؟ كيف تدل أولادك و أصدقائك في يوم عطلة إلى ما فيه من الفنانين و من الأبطال الوطنيين ؟
حفرت المعارك و الشجاعة و المقاومة و أغاني الثوار أخاديد في أرضنا . و مع ذلك لا تجد إذا مشيت فيها لوحة أو نافذة تشير إلى تاريخ في أرض لا تجد بيتا يحفظ ما فيه من تاريخ . و لا تجد كلمة تسجل على حارة ما مر بها من أحداث . دمشق أقدم مدينة في التاريخ ؟ لن تجد خريطة تشير إلى ذلك التاريخ .
...حلب مدينة عريقة ذات بلاط احتشد فيه الشعراء ؟ لن تجد إذا زرتها دروب الشعراء و المحاربين أو درب الكواكبي . انظر ! يقف الملوك في البلاد الاشتراكية على صهوات الخيول في مراكز المدن .
و قد ابتعد الظلم الذي صنعوه ، و بقي ما وحدوه من مقاطعات و ما انتصروا فيه من حروب المقاومة على العدو،
فخطوا إلى مكانهم في التاريخ الوطني لا أكثر و لا أقل . و انظر ! أينما تجولت في بلاد الدنيا تجد ما يشير إلى غرفة كالعش في أعلى الشجرة عاش فيها فنان ما ، تجد لوحة تشير إلى طاولة في مقهى جلس إليها فنان، و تنتظر دورك لتجلس إلى ذكرى الأمس . ترى ما مر في الشوارع و البيوت و المدن من أحداث ثقافية و سياسية، ترى بيوتا ترمم احتراما للأحياء ، كي يعرف الأحياء ما كان في مدنهم أمس .
عاشت الكاتبة البولونية ماريا دنيروفسكايا أربعا و عشرين سنة في بيت في فرصوفيا ، كتبت فيه أكثر مؤلفاتها . عندما بدأ البيت الجميل يتساقط ، قدر له أن يهدم ، سعى المعجبون بأدب الكاتبة لأن يحفظ البيت و أن يرمم . التحق بهذه المبادرة متحف فرصوفيا الأدبي ، فرمم البيت و افتتح سنة 1984 متحفا تحفظ فيه مؤلفات الكاتبة
و المواد التي جمعت عن حياتها و أدبها ، و مذكراتها ، و ما يجهله القراء أيضا : الرسوم التي كانت ترسمها في رحلتها .
ألا نحن المبذرين ! نطبخ أكثر مما يحتاج الضيوف من طعام . و نرمي ما بقي من سهرة الأمس من فرح نمتص من آبارنا لنشتري الموكيت و الكاسيت ... و بماء الفيجة العذب نغسل سياراتنا ونقصَ الشجر في غوطة ألفتها منذ مئات السنين و نقصَ شجر الجوز الوارف العظيم و نرمي الزيتون الذي ربته أجيال . و نهمل مدينة قديمة ، لا يوجد أقدم منها في الكون، تمر باصاتنا بين آثار تدمر توسخها ، تهينها ، و قد تنطحها، في جبالنا لا نضع مقعدا على مطل، و لا نوفر زهرة وطنية فتنقرض الأزهارلا نبقي غزالا في بادية الشام ، و لا طيرا نادرا ، فينقرض الهدهد ولا نسجل في مدننا من يمر فيها من الفنانين و الثوار... في ذلك السياق ستبقى لوحة لؤي كيالي صينية للقهوة و الشاي .
من يشعر بالتراث الإنساني حياة و دفئا ، تعبئه الفتنة و الأسى فيفتدي لوحة ، أو يفتش عن ممر رجل ، أو يقف حزينا أمام قبر ملك منبوش و مهمل . و يبحث عن دنانير الذهب الخفية في ترابه ، و يحاول أن يحفظ ألوان اللوحات التي تسافر خارج الوطن .

.