International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> صورة الفنان في رماده

Article Title : صورة الفنان في رماده
Article Author : محمد أبو معتوق
Source : رؤى ثقافية
Publish Date : 2003-09-13


رؤى ثقافية العدد ( 4 ) – 13 أيلول - 2003
صورة الفنان في رماده قصة – محمد أبو معتوق روائي و مسرحي
الإهداء إلى لؤي كيالي وريشة سعد يكن
أغلبهم يحسون بأنهم يملكون أذناً زائدة .. غير أن معظم الفنانين التشكيليين لا يستطيعون تحديد أي واحدة من الأذنين هي الزائدة .. ليفعلوا بها كما فعل ( فان كوخ ) و يقطعوها و يقدموها هدية لحبيباتهم .. لذلك يكبر إحساسهم بالمعضلة ، ويشعرون أن شيئاً كثيفاً مثل ثمرة بطاطا غامضة يتكوم قرب رؤوسهم ليدفعهم إلى الطواحين...
لؤي كيالي .. كان ينتبه إلى شيء آخر .. إلى طرف السرير وهو يحترق بالنار دون أن يمكنه من الاستلقاء الطويل والمرض من أن يفعل شيئا ...
وكان يخاف على شيء واحد، على روحه من أن تبدأ الحرائق من طرفها قبل أن تبدأ من طرف السرير.. و كان يتأمل بوادر النار وهو يقول :
- يجب أن تكون التجربة مكتملة بصرياً .. حتى نقهر البياض الغاشم. والبياض النبيل ...
لذلك وقع عقب السيكارة على طرف السرير الأبيض واشتعلت الغرفة .. كان لؤي كيالي .. وهو يمد استغاثات أصابعه إلى حافة الهاوية ، يتمنى أن يقيم معرضاً للنار .. حيث يظل طرف كل لوحة في المعرض مشتعلا حتى يلتهم السرير كله ..
عندما مات لؤي كيالي .. وشيعته المدينة والأصدقاء إلى الوحدة و البرد .. كنت مع الجماعة المحتشدة .. و كان مطر خفيف على المعاطف وعلى بقية النار الصغيرة المكومة في النعش. كان المطر يقدم تحيته وعزاءه . لذلك ركضت هاربا قبل أن يكمل المحتفون ومنظماتهم قراءة الرثاء ..
ولأنني ركضت طويلاً وبعيداً ، فقد أحسست بوجهي وقد صار طويلاً وغريباً. لذلك يا لؤي .. يا صديقي بدأت الفرشاة تتطاول علي وترسم لوحدها وبإرادتها .. وجوها طوالاً لكائنات ذوات احتمال طويل ..
غير أنني يا أمير الرماد، و في ليالي الوحدة والبرد، كثيراً ما أرى نفسي في الحلم، راكضاً إليك و معي سطل من الماء، وأنا أصرخ صراخاً طويلاً لا أكاد أصل إلى نهايته .. أدركوا لؤي .. أدركوه، ألسنة النار وصلت إلى قبعة القلعة .. وعندما أصل إلى النار أنتبه إلى السطل فلا أرى فيه نقطة ماء واحدة.. ولأن السطل الذي أشاهده في الحلم يشبه كثيراً السطل البلاستيكي عندي في الحمام لذلك عندما أستيقظ أركض غاضبا إلى السطل، و أملأه، حتى يسعفني بالماء إذا اضطررت لحمله في الحلم القادم، وقد تكرر الحلم كثيراً .. غير أن الماء لم يكن في صفي وصفك يا صديقي ..
بعد مرحلة من التأمل و الدراسة قررت بيني و بين نفسي أن ساحة الفن التشكيلي .. أصبحت خالية ، وأنه لم يعد بوسع أحد أن تكون له قامتي ولا قوة حضوري وتأثيري .. لذلك انصرفت إلى العمل .. إلى تأمل فرشاتي ولوحاتي وغليوني .. والانتباه إلى المرآة القديمة التي تعيش معي .. إلى وجهها الفخاري وكلامها الذي لا ماء فيه، وأنا أهمس لنفسي ونقودي القليلة .. لقد حان الوقت ..
وبعد أن أنهيت عددا من الأعمال يكفي لإقامة معرض .. وقفت أمام اللوحات وأنا أتأمل بذهول وارتعاش.. الأشكال التي أنجزتها .. وجوه طوال وأصابع طويلة .. و كراس طوال وخيبات طويلة .. طويلة ، كل شيء في اللوحات يعيش دهشته الطويلة .. الألوان مندهشة، العيون ، التفافات الأصابع، وأطراف الأفواه وهي تنحدر إلى هاوية الكلام والصمت ..
العيون الناشفة وهي على قارعة البكاء.. الحقيقة، لقد أنغصني المعرض كثيراً، وقررت أن أحداً غيري لا يقوى على صياغة الفزع ودهشة الوجوه ومخاوف الأعضاء والأحلام ، حتى ولا القنبلة الذرية ..
في نهاية المعرض الذي لقي قبولاً متفاوتاً .. أقيمت ندوة تحدث المتحاورون فيها عن حيوية اللون وقوة التحليل في الأعمال، وخلال الحوار وقف أحد الشبان المناجيس المهتمين بالأدب والكلام، وقال إن أصحاب الشخصيات المتطاولة الوجوه في اللوحات .. يشبهون نوعا من البطاطا الذكية .. لذلك كدت أصرخ، ولكنك لم تحضر التشييع يا ابن الحرام، ولم تتأمل الوجوه .. الجميع، الجميع كانوا كذلك بما فيهم الموتى وشواهد القبور.. وباعة المازوت على الطريق المجاورة للمقبرة .. ثم بدأت أحس بالنار .. بالنار العالية، وتمنيت أن أركض إلى الماء، إلى السطل الفارغ لأرفسه بوحشية حتى تتساقط الدموع من أطرافه ويتلون وجه المرآة الصلصالية التي أعيش معها بالماء والروح ..
بعد الندوة جمعت الأعمال واشتريت مشرطاً .. وتفرغت لتمزيق اللوحات بهدوء وروية .. وعندما وجدت المرآة الصلصالية نفسها وحيدة مع الإطارات الفارغة، حملت حوائجها و هربت ..
بعد ذلك بدأت تنتابني كوابيس المرحلة الثانية وأحلامها ، بعد أن طوحت بالسطل بعيداً ..
في المرحلة الجديدة بدأت أسمع صراخ الوجوه الطويلة واستغاثات الأفواه المعوجة بعد أن فعل فيها المشرط ما فعل.. فأطعمت بعضها للنار وبعضها لحاوية الزبالة القريبة .. وها هو السطل الذي لم ينجدني بالماء يحمل رماد اللوحات الطويلة إلى التشييع .. غير أنني وبعد انقضاء مدة على تدمير لوحات معرض ( البطاطا الذكية )بدأت موجة من الحنين المر لمجموعة اللوحات الممزقة تنتابني .. وصرت أحن للأشياء الطويلة .. وفي محاولة مني للتكفير عما اقترفت.. تعرفت على فتاة طويلة.. وجهها شديد القرب من أشكال وجوه اللوحات المبادة، وقررت أنني لا أستطيع أن أحب سواها ..
وقتها لم أكن منتبها إلى الطنين .. كان صوتها طويلاً وجارحاً وكأنه خارج من لجة الماء، و لم تكن أذني تحتمل.. ولم أكن منتبهاً أول الأمر .. غير أن أذني هذه المرة خرجت علي وذكرتني بفان كوخ فاغتبطت وقلت : تلك هي إذا بوادر وإشارات اقتراب المرحلة الثانية.. ولا بد من إنجاز معرض جديد.. غير أن السيد فان كوخ زودها معي.. و صار يداهمني في الأحلام ومعه مشرط يحاول به أن ينقض على أذني ليطوح بها.. وكان يصرخ أمامي في الحلم ما الفائدة، ما الفائدة، ما دامت آذان الحمير طويلةو كبيرة، فما الفائدة. وكنت أنهض من الحلم فزعا لأتأمل صوت زوجتي وأنفها، ثم لأعود ثانية إلى النوم لأصرخ من جديد، ما الفائدة.. وحتى أمنع السيد فان كوخ من تحقيق أهدافه معي، حملت أمتعتي، وبقايا الصداع الذي تركه صوت المرآة الطويلة في روحي.. وهربت إلى المقاهي والجهات الصامتة.. لأنجز معرضي الثاني.. معرض (الكراسي الفارغة) ثم أتبعته بمعرض ثالث أسميته ( القلعة سوبر نايت كلوب ).
و قد تساءلت .. لماذا أسميت المعرض الثالث بهذا الاسم ( القلعة سوبر نايت كلوب ) كانت قلعة حلب التي أرسمها مملوءة بالضوء والمؤشرات والنيران .. مثل امرأة باهرة تستعيد ذكريات عشاقها و زبائنه.. فاتحيها واللائذين بها.. وأحسست كم كانت القلعة خائفة حتى تحصن نفسها بهذه الوساوس والحجارة الراسخة، وانتبهت لم أكن أقصد القلعة ولا أعنيها .. كنت شديد الهيام بها.. ولكنهم يحولون كل شيء إلى (كباريه).. المعتقدات والأرصدة وأجهزة الدعاية، ومواطن الأنوثة في الفتيات الناهدات .. وكانت القلعة تصمت وتراقب ولا تتحرك، ولذلك أطلقت عليها الضوء والنيران، حتى تشتعل شبقاً وانحرافاً .. وكنت خلال ذلك وحيداً حتى تكاد القلعة أن تخاف مني .. وعندها بدأت المرحلة الثالثة .. بعد أن اكتملت بالوحدة واكتملت بي ...
خلال هذه المرحلة تعرفت على ( ثريا ) .. وكنت قد قررت بأنني لن أتزوج أبدا .. ولكنها كانت تريد أن تتزوج ولم أكن أحب أن أكسر خاطرها.. رغم حديثي الطويل عن هبات النزق النشطة التي تنتابني فأبدأ بتمزيق اللوحات المجاورة لغضبي.. وقد أضطر في حالة من العصبية الطارئة إلى تمزيق كل شيء .. لذلك نصحتها بأبوة شديدة أن تغض النظر عن موضوع الزواج .. لكنها رفضت وخلال نوبة مباغتة من الدموع والأسى، كشفت عن صدرها، وطلبت مني أن أبدأ بتمزيقها مثلما أفعل مع لوحة خائبة، ثم أوضحت لي بأنها لا تستطيع الحياة بعيداً عن ريشتي وأصابعي وأنواع البطاطا النادرة التي أثبتها على لوحاتي. ثم أوضحت لي من خلال دموعها بأنها لا تريد مني سوى أن أحقق لها أمنيتين اثنتين. الأولى ولد واحد حتى تستطيع الاستغناء عني، والثانية العمل على الانضمام إلى مجموعة العائلات ( الفرانكو– فونية ) في حلب، ولأنني وقتها لم أكن أعرف سوى القليل من الانكليزية، فقد شعرت بالتهافت و الضعف، ووافقت على كافة الشروط .. لأخرج من رهان وحدتي وسطوة أصابعي ومخيلتي .
كنت في المرحلة الأولى و الثانية أبحث عن الحالات أصوغ المشاعر العامة و الأمزجة في لوحات .. و بعدها قررت رسم الأفراد.. بائع الصحف.. بائع الخيوط.. الشاعر– المقهى .. لؤي كيالي .. عدد من (البرتوريهات) .. وليد إخلاصي .. الحكواتي – وأشياء كثيرة أخرى. وقد بررت لثريا بوعدي، فولدت لنفسها ولداً مني.. بعدها تابعت الرسم والتمزيق بهمة نشطة وروح مرحة، وأقمت في البيت الجديد الواسع مرسماً مجهزاً وصالة للعرض، أسميتها صالة ( البطاطا الملونة ) وتابعت العمل.. كنت بعد الانتهاء من رسم اللوحات أفرزها .. لوحات للاحتفاظ، ولوحات للتمزيق .. ثم أفتعل معركة مع زوجتي ( ثريا ) وأبدأ بتمزيق اللوحات التي لا تعجبني.. فتشهق المسكينة من الذعر وترتمي على يدي وقدمي بضراعة شديدة كي أتوقف عن التمزيق، وعندما أنتهي من تمزيق اللوحات المقررة أتقدم بعصبية إلى الطرف الآخر لإيهامها برغبتي في متابعة التمزيق، عندها كانت ثريا تنهض مستغيثة وتضع جسدها حاجزاً بيني وبين لوحاتي الأثيرة .. وتستمر في معاندتي ومنعي حتى أهدأ وأذهب إلى الركن الآخر وأبدأ بحشو غليوني وتأمل ضحاياي .. لم يكن الذنب ذنبها، ولا ذنبي، كانت اللوحات التي أمزقها من النوع الذي لا يمكن احتماله ..
ثم لماذا لم يفعلها السيد فان كوخ ويلحق الأذى بإحدى عينيه، بل فعلها مع أذنه. أليس لأن العين أكثر أهمية وتأثيرا من الناحية التشكيلية والجنسية ..
كثيرا ما يحصل معي هذا الأمر ، فبينما أكون في مرحلة ( الفينشينغ ) أي وضع اللمسة الأخيرة على اللوحة .. حيث سيكتمل الخلق والإبداع ، وهذه المرحلة ذات طبيعة خاصة ولا تستطيع أي زوجة على الأرض أن تقدر حساسيتها وقوة تركيزها .. حيث أقف في مواجهة اللوحة لأشن هجومي الأخير. الغليون في يد، والفرشاة في اليد الأخرى، واللهاث والنظرات الثاقبة في كافة الاتجاهات .. وأكاد أن أقذف .. نعم أكاد أن أقذف .. الصرخة (صرخة النصر أو صرخة الانحدار والموت ..) بينما أكون في هذه الوضعية، تصيح زوجتي من الداخل عدنان ، يا عدنان، أغلق الباب .. عندها أخسر حالتي ومعركتي، وأكتشف الدافع الذي دفع السيد فان كوخ لقطع أذنه. وهو شيء آخر غير رغبته بتقديمها هدية لحبيبته، السبب حتما متصل بصراخ أطلقته زوجته، أو زوجة أخيه، أو زوجة أخرى عبرت الشارع، فأضاعت عليه لحظة الحب العظيم والذروة ، لحظة ولادة اللوحة و فنانها .. لحظة انبعاث اللذة واحتضارها ، لحظة القذف المجيد، لحظة (الفينشينغ) ...
بعدها أقف وحيداً عارياً .. ويتطاول وجهي علي ليصير من عشائر الشمع الملتهب وخصاله ، وينحدر فمي إلى آخر الأرض، فأهرع إلى زوجتي ثريا ورغبة جارحة تنتابني لأعلقها في سقف الصالة.. ولكنني أخاف أن يؤثر توتر حزنها العالي على الكهرباء والضوء. لذلك أتراجع عن مقاصدي وألتفت إلى جهة الباب والشارع والمقبرة .. لأصل إليك يا لؤي .. وأقعد قرب تراب قبرك الندي لأقول لك :
الحياة عظيمة لأنها معي
والموت عظيم لأنه معك
وآكلوا البطاطا في لوحة فان كوخ ما زالوا على حالهم يا صديقي ....