International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> لؤي كيالي .. الإنسان القادم من الأسطورة

Article Title : لؤي كيالي .. الإنسان القادم من الأسطورة
Article Author : سعد يكن
Publish Date : 2003-09-13


رؤى ثقافية العدد ( 4 ) – 13 أيلول - 2003
لؤي كيالي .. الإنسان القادم من الأسطورة ! سعد يكن
في الحديث عن لؤي كيالي لا يمكن الفصل بين شخصيته كإنسان و بين لوحته كعمل فني . و من الصعب تحديد أيهما أهم ، لؤي أم لوحته ، لأنه يمثل حالة استثنائية في السلوك نتيجة مجمل تأثيرات عاشها من خلال علاقته الذهنية و إعجابه الشديد بـ ( فان كوخ ) و السيد المسيح ، فكانت انتكاسته روحيا و داخليا، و خاصة بعد 1967 . و بعد انتكاسته تلك تعرفت إليه في حلب عام 1969 ، و خضت معه تجربة طويلة من الرسم المشترك ، و من الحوارات . و استمرت هذه العلاقة حتى وفاته .
لؤي صديقي بكل معنى الكلمة ، و لا يمكن التساهل معه في الحوار أو السلوك أو في العمل . استطاع من خلال موقفه أن يترك بصمة واضحة في تاريخ حركة الفن التشكيلي السوري ،.... بصمة إنسانية و شخصية من خلال مجمل العلاقات التي مرت في حياته ، بالرغم من قتلها نسبيا . و خلال تواجده في حلب بعد عام 1969 ما كان لؤي هو نفسه الذي كان في دمشق بداية الستينات في مرسمه في الروضة أو العفيف.
لقد تحول بعد 1967 إلى شخص منزو حاد الطباع ، شفاف و عنيف و هادئ في الوقت نفسه .
تعتمد ثقافة لؤي على الثقافة الاجتماعية و التجربة الشخصية أكثر من الثقافة الفكرية التي تعتمد على البحث و التاريخ و التراث.
كان لؤي في موقع الماركسية في الستينات و بداية السبعينات ، فقد كان ماركسيا بالفطرة انتمى إلى مقولة الدفاع عن إنسانية الإنسان ، و كان واعيا إلى أزمة الإنسان أكثر من بعض الأشخاص الذين رسمهم ، مثل ماسح الأحذية ، أو بائعة اليانصيب على باب المقهى . لذا ، أعتقد أن لؤي أدرك مأساة الإنسان أكثر من الإنسان نفسه . و من هذه الوجهة رسم بائع اليانصيب كما يريد ، و ليس بتأزم أو توتر ، بل في حالة استسلام الشخص الواعي لمأساته ، و الفاقد القدرة على فعل شيء لتغيير حياته . و لذلك أحب الناس أعماله كثيرا ، و خاصة الطبقة البورجوازية التي اقتنت كل أعماله ، تقريبا ، و بأسعار عادية في ذلك الوقت .
لؤي كان مقلا بصورة عامة ، و كانت لوحته مدروسة ، و تعتمد في الدرجة الأولى على الخط ، إذ كان يجري دراسة بقلم الرصاص ، و من خلال مشهد واقعي ، فكان يأخذ اسكتشا أو عدة اسكتشات لموضوع واحد ، و يختار منها واحدا ليحوله إلى لوحة بالفحم، و من ثم يستخدم الألوان الشفافة .
كنا نسهر كثيرا ، و كانت العلاقة الحميمة بيننا تتيح إجراء حوارات طويلة تتراوح بين منتهى القرب ، و منتهى الرفض، و منتهى القبول ، و ذلك ليس من طرفي ، و إنما من طرفه .
لم يكن لؤي صاحب نكتة أو دعابة ، فكنا في حضرته نجلس مثل حواريي السيد المسيح. لكن ذلك كان قريبا من القلب ، و كنا نسهر سهرات طويلة دون أن نتكلم كثيرا ، فأزمة لؤي الصحية أثرت على سلوكه ، و صار عدائيا في بعض مواقفه تجاه ذاته ، و تجاه الآخرين .
و أعتقد أن عدائيته تجاه ذاته كانت بهدف معاقبة الآخرين من خلال اضطهاده لذاته . فقد كان يرفض أخذ الأدوية أحيانا ، و كنا نتحايل عليه أو نضغط عليه من أجل ذلك ، بناء على نصيحة الدكتور علاء الدين دروبي طبيبه في لبنان ، الذي أحبه كثيرا ، و أقام له معرضا في بيته ، و باع له كل لوحاته . و كان لؤي يثق به كثيرا .
و كنا نضطر أن نذهب إلى المرحوم الكرسون بكري في مقهى القصر ليضع له حبة الدواء بعد طحنها في
القهوة. و عندما أحس بذلك بهدل الكرسون و حرد من المقهى ، و لكن سرعان ما غفر لبكري و رجعت
الأمور إلى طبيعتها .
هناك جوانب كثيرة يمكن أن نكتبها عن لؤي ، لكن طبيعة علاقتي الشخصية معه كانت حياة معاشة أكثر من كونها مراقبة أو تلمذة ، و قد خضنا تجربة مشتركة واعية و قريبة ، و فيها كثير من الحب و الاحترام ، تجاه لؤي .
يمكن ألا يكون حديثي عن علاقتي بلؤي متسلسلا زمنيا ، فهذه مقاطع تحضر من ذاكرتي عفوا . و من الطبيعي أن لؤي لم يكن يريد الموت ، بل كان يريد من الآخرين أن يحسوا به ، و يدركوا مأساته ، لكن حدسه و إخلاصه لذاته كلفه حياته . فقبل وفاته بفترة عاش حالة نفسية كئيبة جدا . إذ كان يبقى في البيت من الظهر إلى صباح اليوم التالي ، و كان يداوم على المهدئات ، مثل الفاليوم أو نوبريوم ، و كان يأخذ خمس أو عشر حبات دفعة واحدة . و هذا ما جعله لا يشعر بسيجارته بعد أن ابتلع علبة نوبريوم ( 12 حبة ... من عيار 10 أو أكثر .. لا أدري ) . حدث الحريق ، و أحس به الجيران ، فنقلوه إلى مشفى الجامعة ، و قد زرته عدة مرات.
و لذلك أقول بكل ثقة أن لؤي لم ينتحر ، و لم يكن يريد الموت ، و في إحدى زياراتي له قبل نقله إلى دمشق إلى مشفى حرستا ، كانت أخته غالية كيالي تشرف عليه في المشفى ، و لم يكن وضعه الصحي مترديا إلى درجة الموت . نظر إلي و ضحك . و قال " شايف يا سعد الإيدين اللي ناكل منا احترقت ". مزحت معه بطريقتي قائلا : " و لو يا أو حسين .. بكرا تطلع و ترجع لحالك و للوحتك .. كلها مرحلة و تعدي ". و في اليوم نفسه زاره الطبيب لتغيير ضماد جروحه ، و كان الشرشف الأخضر تحته ، و كنت أطارد مع أخته ذبابة ، و إلى أن اصطدناها " ما ضل حدا لحدا ".
وقتها زار المستشفى صلاح الدين محمد و إسماعيل حسني ، و سعد غنايمي . قابلتهم و ساعدتهم في الدخول . بعدها انتقل إلى مشفى حرستا في دمشق بمساعي السيد العماد أول مصطفى طلاس .
عرفت أنه توفي في ما بعد إثر نوبة قلبية ، و عرفت أنه كان يجب أن يعطى ممعيات للدم ، لأن حروقه لم تكن تسمح له بالتحرك .
خلف لؤي كما قليلا من اللوحات ، و مشاعر كبيرة غمرت أصدقاؤه و أهله و كل الناس الذين عرفوه في حياته .
لؤي صاحب قلب كبير .. كان طفلا و بحاجة دائمة إلى كثير من الدلال و الرعاية . و بغض النظر عن قيمة وعيه و أهميته ، إلا أنه كان فنانا . و الحروب الصغيرة التي تعرض لها في دمشق ، و التي كان يتحدث عنها ، أثرت عليه جدا و ساهمت مساهمة سلبية فعالة في تخريب حياة لؤي الإنسان . و أعتقد أن كل إنسان يتذكر لؤي كيالي يدرك تماما الإساءات التي وجهها إليه النقاد، و الأصدقاء بصورة خاصة ، و دون ذكر أسماء . فبسبب تقديم معرضه في سبيل القضية و رفض جماعة حركة 23 شباط لانتسابه إلى الحزب ، لأنهم اعتبروا أن "ابن الكيالي" لا علاقة له بالنضال ، و الثورة بحاجة إلى طبقة عاملة ، و ليست بحاجة إلى بورجوازيين و أرستقراطيين على طريقة لؤي كيالي .
ضمن تلك المرحلة كانت هذه هي المفاهيم السائدة . كل هذا كان سببا في أزمة لؤي النفسية، و التي شرحها
لي الدكتور علاء الدين دروبي في بيروت أثناء معرضه الذي أقيم في منزل الدكتور دروبي . كانت مشكلته
المرضية تكمن في انفعاله النفسي ، الذي يحدث خللا عضويا ، و يسبب له نوعا من الشيزوفرينيا نتيجة خلل في الإفرازات ، و هو ما يحتاج إلى علاج دوائي دائم ، و كان لؤي ضد ذلك دائما .
سافرت مع لؤي عدة مرات إلى دمشق ، و إلى البحر ، و أرواد التي كان يحبها كثيرا ، و كان يرسم اسكتشات عن الصيادين و المراكب . و كل لوحاته كانت مأخوذة من مشاهد واقعية ، إلا أنه كان يصنعها مختلفة بشكل ما .
أسلوب لؤي يعتمد على خط قوي ، و تكوين مغلق ، و ألوان صريحة.
تأتي أهمية لوحة لؤي من شفافيتها الإنسانية ، و الدراما الداخلية التي يحملها الأبطال . هذا شيء يجعل المشاهد يشكل نوعا من التعاطف القريب و القوي مع اللوحة ، مهما كان الموضوع . و إذا كان الإنسان يحب لوحة الزهور أو معلولا لجمالها و هدوئها ، و لتشكيلها المدهش ، فإنه يحب له لوحة ماسح الأحذية ، أو لوحة بائع الجوارب . و كانت لوحة الزهور تعلق في الصالونات و البيوت كما كانت لوحة ماسح الأحذية ، التي اعتبر لؤي فيها نفسه مدافعا عن قضيته ، كانت أيضا تعلق في الصالونات إلى جانب لوحة الزهور .
القسم الذي أعرفه من حياة لؤي عاشه كفنان ، و مات ميتة نموذجية كفنان .
بعد خمسة و عشرين عاما من الصعب الحكم على طريقة موته إن كانت انتحارا ،كما يقول بعض الأصدقاء ، أو إن كانت موتا بالغلط ، أو قدرية الحياة . و لا أعرف ما المجدي في البحث عن هذه المقولات . المهم في الموضوع هو لؤي ، و لؤي مات .
كنت أتمنى أن يرى لؤي نفسه في حيز مختلف ، و في وضع اجتماعي و إنساني مختلف ، لكن هذا كلفه حياته .
و مع الأسف إن كل ما أتذكره عن نهايات لؤي كيالي هي عملية الدفن في مقبرة الصالحين . و بعد ذلك ضاع القبر ، و لا أحد يعرف الآن مكان قبر لؤي ، سواء من أهله أو أصدقائه . و لا توجد شاهدة أو علامة تدل عليه . هذه مشكلة ، ففي وقتها كان محافظ حلب و الدولة موجودين في الجنازة ، و كانت جنازة رسمية ، و شرطة سير و موتوسيكلات . و بعد دفنه ضاع مكان القبر في مقبرة فيها خمسين ألف قبر . و هذا يذكرني بكثير من المبدعين الحلبيين أو السوريين أو العرب الذين لاقوا المصير نفسه .
هناك نقطة أثرت كثيرا على لؤي كمفصل، إضافة إلى عودته من دمشق ، و هي قرارة العودة إلى روما في أواسط السبعينات ، فباع بيته و جهز عدته ، و أحرق السفن على طريقة طارق بن زياد ، و سافر إلى أصدقائه الطليان ، و أصدقاء من حلب كان بعثهم إلى إيطاليا على نفقته لدراسة الفن، و أخص بالذكر الفنان عبد الرحمن قطري الذي ساعده لؤي ماديا و اشترى له بطاقة الطائرة و أعطاه ما يكفيه إلى أن تستقر أموره ، و كان هناك وحيد مغاربة الذي ساعده لؤي كثيرا ، بشكل أو بآخر ، في بداية السبعينات .
ذهب لؤي إلى إيطاليا لفترة ، و من ثم عاد منكسرا . على ما يبدو كان يتوقع شيئا و تفاجأ بواقع مختلف تماما . فالواقع الذي صدمه في إيطاليا لم يمكنه من الاستمرار هناك ، و رأى أن الذين فتحوا له صالاتهم في الستينات عندما كان طالبا قد تخلوا عنه .
و لم ير أصدقاءه من حلب الذين عاشوا معه على طاولة واحدة ، و الذين أرسلهم بمجهوده الشخصي لدراسة الفن ، و كان يتمنى أن يشعروا بحد أدنى من الامتنان تجاهه ، أو من خلال استقبال جيد ، فاستقبالهم له كان
سلبيا و مدته قصيرة ،و لم يتحملوا وجوده عندهم لفترة طويلة ... فحزم أمتعته و عاد إلى حلب ، و بدأ من
جديد بعد أن أنفق كثيرا من ماله الذي باع به بيته ، و أقام في بيت في الجميلية (قبو) و لا أذكر إن كان باع هذا البيت و استأجر بيتا آخر ، و هو الذي توفي فيه .
أكثر ما يمتع في الحديث عن لؤي هو الإحساس بلؤي ، لأن المشاعر الإنسانية في غياب الإنسان تبقى . و مثل كل القصص العظيمة ، و كل الأديان ، و كل الأبطال القادمين من صفحات التاريخ ، و حتى لو ذهبوا ، تبقى ظلالهم تهيمن على الذات نتيجة تأثيرهم الإنساني ، أو البصمة المهمة التي قدموها للآخرين .
لؤي واحد من الأبطال الأسطوريين بالنسبة لي ، و هو إنسان في صف دونكيشوف ، و أبطال شكسبير ، و هو مواز لهم تماما في مشاعره الإنسانية . و بنبله بعيد كل البعد عن التفصيلات التافهة ، و بعيد عن الوصولية ، أو الدخول في عوالم المادة التي لا تنتهي .
أكتب الآن بصورة عامة عن علاقتي بلؤي ، و الأهم من كل هذا التأثير الذي تركه في داخلي من خلال ارتباطي بعملي الفني ، و من خلال الجدية و البحث و المغامرة ، و ربط الفن بالإنسان ، و الإصرار على هذه الناحية . و كل مواقفي المتعلقة باللوحة في جذورها تتعلق بلؤي . و حبي للرسم و الخط كان نتيجة عشرات و مئات الاستكشاف التي رسمناها معا .
وجود لؤي كيالي كان مهما كثيرا في حياتي ، و في ما بعد أثر لؤي على الحركة التشكيلية السورية بصورة خاصة ، و العربية عامة ، و هذا واضح في الساحة التشكيلية السورية إذا استعرضناها بانوراميا .. لكن تبقى شفافية لؤي و نبله و اهتمامه الحقيقي من الحالات النادرة التي يمكن للإنسان أن يصادفها في إنسان آخر من خلال المعايشة اليومية ، و قد عرفت ذلك على مدى عشر سنوات من أواخر أيام لؤي كيالي .