International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> الفنان لؤي كيالي وشفافية الإبداع في الفن التشكيلي

Article Title : الفنان لؤي كيالي وشفافية الإبداع في الفن التشكيلي
Article Author : سليمى محجوب
Source : جريدة الاسبوع الادبي - العدد 1091
Publish Date : 2008-02-16


جريدة الاسبوع الادبي العدد 1091 تاريخ 16/2/2008
الفنان لؤي كيالي وشفافية الإبداع في الفن التشكيلي ـــ سليمى محجوب

إنها الذاكرة تستغرقنا، وكأننا كلما أمعنا في الماضي توهجت الحياة في أعماقنا.‏

والزمن وحده هو الذي يفتح مواقعنا ويغلقها. هو الذي يستطيع أن يعيدنا إلى طلاسم الإبداع لنفك سحرها المعقود بلا حدود.‏

وفي عودة إلى القرن العشرين إلى الخمسينيات والستينيات من هذا القرن نجد أن سورية قد شهدت حركة فنية راقية وبخطى متسارعة استطاعت هذه الحركة أن تثبت وجودها شكلاً ومضموناً لتتلاءم مع الحركة الثقافية الناهضة، ولإثراء الحياة الاجتماعية في أعمال فنية غنية، تجسد هموم الأمة وتبلور تطلعاتها وآمالها والتحديات التي تواجهها. وقد رسمت هذه الأعمال بريشة مواهب شابة سارعت المؤسسات العامة لاستقبالها بإعجاب وتقدير. وبذلت جهداً في رعاية المبدعين وإيفادهم للدراسة والاطلاع والتعمق في كل فن جديد.‏

إرساء القواعد‏

ويمكن أن نميز في مسيرة هذا الفن الجديد مرحلتين:‏

ففي المرحلة الأولى يسجل الفن التشكيلي نهضة لإضفاء الأنوار ورفع رايات الإعجاب بالأعمال الفنيّة التي قدمها الفنانون التشكيليون، بعد عودتهم من رحلات الاختصاص إلى العواصم الغربية ومتاحفها، فقد ساعدتهم هذه البعثات على دراسة الفن والاطلاع على روائع إنتاج الفنانين الأوربيين. فعادوا وفي جعبتهم مشروع لتطوير المشهد الفني الثقافي. وتأليف الكتب ورسم اللوحات، وإرساء القواعد الأساسية للفن التشكيلي.‏

لقد خضع الفن في سورية نتيجة هذا الافتكاك الثقافي إلى مجموعة من الاتجاهات الفنية الغربية التقليدية. ومنها «الكلاسيكية، والرومانسية والواقعية والانطباعية». كما برزت على الساحة اتجاهات حديثة مثل «التعبيرية والسريالية والتكعيبية والتجريدية لم يلبث الفنانون أن ساروا في ركابها متأثرين بخصائصها وانطباعاتها».‏

ففي مجال الفن الكلاسيكي أبدى الفنانون السوريون براعة فائقة، ودقة متناهية فظهر على الساحة الفنية التشكيلية رسامون مازالت لوحاتهم تشهد على إبداعهم، ومن هؤلاء برز «توفيق طارق، ورشاد قصيباتي، وسعيد تحسين، ومحمود جلال، وفتحي محمد» كرواد لحركة هذا الفن في سورية.‏

أما في الاتجاه الانطباعي. فقد أبدع «ميشيل كرشة، ونوبار صاغ، وناظم جعفري ونصير شورى أعمالاً فنية رائعة أغنت هذا الاتجاه، وأدهشت بفنِّيتها كل من زار معارض هؤلاء المبدعين».‏

وفي الاتجاه الواقعي الذي يستمد موضوعاته من الحياة اليومية، والبيئة الشعبية، والريفية فقد كان من مصابيح هذا الفن عبد الوهاب أبو السعود، وسعيد تحسين وصبحي شعيب وغيرهم.‏

بعثات دراسية‏

ومع إطلالة الخمسينيات والستينيات للقرن العشرين تبدأ المرحلة الثانية من تاريخ الحركة الفنية في سورية حيث أقيم أول معرض عام 1958م. أعدت له مديرية الفنون التشكيلية والتطبيقية التابعة لوزارة الثقافة والإرشاد القومي، وأشرفت على المعارض الفنية لتشجيع المواهب الشابّة. ولا سيما أولئك الذين عادوا من الإيفاد للدراسة في جامعات أوربية من قبل وزارة التربية والتعليم. والتي كانت تعرف بوزارة المعارف في ذلك الحين. وكان أهم هذه المعارض: معرض الربيع في حلب، ومعرض الخريف في دمشق الذي أقيم عام 1960 في كلية خاصة بالفنون الجميلة في جامعة دمشق.‏

وكانت تعرف «بالمعهد العالي للفنون الجميلة» كما أسست في 26/2/1971 نقابة الفنون الجميلة، في حين ساهمت وزارة الثقافة في إقامة معارض مميزة للموهوبين.‏

وشجعت على اقتناء عدد من إنتاجهم الإبداعي. كما أوفد عدد من الفنانين الشباب في بعثات دراسية إلى إيطاليا ومصر وإنجلترا وتركيا وروسيا وغيرها. ومنهم أدهم إسماعيل، وفتحي محمد، وإسماعيل حسني، ومحمود حمّاد، وممدوح قشلان، وفاتح المدرس ورولان خوري، وخالد فراتي، ورجائي الصفدي، ولؤي كيالي وغيرهم. وقد درسوا في إيطاليا. أما الفنان نعيم إسماعيل فقد درس الفنون في تركيا. ودرس يوسف أيوبي وهشام المعلم في إنكلترا، وتيسير صباحي في ألمانيا. أما عبد المنان شمّا، وميلاد الشايب فقد أوفدوا إلى روسيا وتأثروا بحركتها الفنية، في حين أوفد نذير نبعة، وغازي الخالدي، وقطمه الحمصي، وغسان السباعي، وليلى نصير، وعدنان انجيلة إلى مصر العربية لتعزيز خبراتهم، وتوسيع دوائر إبداعاتهم.‏

بعد هذه اللمحة التاريخية لحركة الفن التشكيلي في سورية يمكننا القول إن «لؤي كيالي» كان أحد الرواد ممن حمل الرسالة، وتابع المسير مع أبناء جيله من كوكبة الفنانين التشكيليين فإذا بالفن يزهر ويقدم ورداً مبشراً بحركة تشكيلية تحمل هموم الأجيال من أبناء هذا الوطن، وتخلد جماله، وتؤطر بيئته، وواقعه في لوحات فنية لا أروع ولا أبدع. وكان هذا الفن قد اتخذ موقفاً من الالتزام بقضايا الأمة العربية، والمواقف القومية، ولا سيما القضية الفلسطينية التي لاقت كل اهتمام من فناني هذه المرحلة، فجسدتها في أعمال فنية استطاعت أن تحظى بإعجاب على المستوى المحلي والعالمي.‏

لؤي كيالي وعالم الإبداع‏

لؤي كيالي مبدع من رواد الحركة التشكيلية في سورية، ولد في مدينة حلب عام 1934. تلقى دراسته الثانوية في مدرسة المأمون، وبدأ بممارسة هوايته الفنية في سن مبكرة فقد استطاع إقامة معرض للوحاته وهو مايزال طالباً في هذه الثانوية.‏

انتقل بعد إتمام هذه المرحلة إلى دمشق. والتحق بكلية الحقوق، وشارك في معرض أقامته الجامعة السورية في السنة الثالثة لالتحاقه بتلك الكلية. وقد حظيت لوحاته بالتقدير والإعجاب وحصد الجائزة الثانية في عداد الفائزين.‏

لكن لؤي لم يتابع دراسته في كلية الحقوق بسبب إيفاده في بعثة من قبل وزارة المعارف السورية ـ التربية والتعليم ـ عام 1957 إلى إيطاليا لدراسة الرسم في أكاديمية روما للفنون الجميلة. وفي مختبرات الأكاديمية ومراسمها. وقاعاتها توهجت تجربة لؤي الفنية، وموهبته الفطرية التي صقلتها الدراسة الأكاديمية ـ وأبدع باهتمام وطموح في فني الرسم والنحت، وقطف عدد من الجوائز والميداليات الذهبية. ومنها:‏

الجائزة الأولى من مركز العلاقات الإيطالية، تنظيم مسابقة (سبيليا)، كما فاز بالميدالية الذهبية للأجانب في مسابقة (رافينا) عام 1960م. كما مثل مع (فاتح المدرس في البندقية) الفنانيين السوريين في معرض كان يقام مرة كل سنتين. فكان حضوره مميزاً، ومكانته الفنية بارزة.‏

وفي عام 1961 أنهى دراسته في الأكاديمية، ونال شهادة عالية في قسم الزخرفة وتخرج من كلية روما يحمل رصيداً من الخبرة والاطلاع على المذاهب الفنية الحديثة ـ لكنه بقي مصراً على مواصلة الرسم بأسلوبه الواقعي ذي القوام الخطيّ، والسطوح والألوان المتقشفة التي اعتاد رسمها من قبل، وهو الأسلوب الذي التزم به في معرضه الأول الذي أقامه في مرحلة دراسته الثانوية.‏

زاهد مترع بالصمت‏

كانت حياة لؤي جزءاً من لوحاته الفنية. كما كانت لوحاته جزءاً من حياته. وتصويراً لها بكل واقعيتها، وتأزمها وبؤسها وإحباطاتها. عاش لؤي في أحضان وطنه زاهداً مترعاً بالصمت، في داخله إحساس فادح بالغربة عن واقع الإنسان العربي الأليم وما يعانيه فجاءت لوحاته تعبيراً عن هذا الشعور وتلك الأحاسيس.‏

كان واقعياً في اتجاهه الفنّي، واعياً لواقعه المرير يعبر عنه بحسه المرهف، وعاطفته الغامرة، وبموهبته التي تملك أدوات الإبداع، تتبدى شفافية لؤي المترعة بالأحزان في كثافته التعبيرية بالخط واللون والإشارة الواسعة التي تفتح باب التأمل دون حدود.‏

ابتكر لؤي كيالي سفوحاً فنية رشَّ فيها ضباب أحزانه. ونسج في خطوطها صوراً أليمة من حياته بواقعيتها كلها. فجاءت هذه اللوحات أصدق تعبير عن هموم كثير من الناس البائسين والفقراء والمحرومين من الأطفال، والمشردين والعمال المسحوقين. رسم لؤي وجوهاً تستكين للصمت والبؤس، ولخيبة الأمل في أمة لا تحقق هتافاتها وشعاراتها سوى الفشل في مستقبل مظلم.‏

ومع النكبة الفلسطينية، وعلى مشارف عام 1967 انفجرت معاناة لؤي كيالي المريرة التي بدت في معرض عالجت لوحاته قضايا قومية هامة سماه «في سبيل القضية». ضم المعرض ثلاثين لوحة، رسمها كلها بالفحم الأسود. واتشحت هذه اللوحات بالأجواء الرمادية. وشحنت شخوصها بالرفض المتصاعد، صراخاً وغضباً، وضياعاً وتشرداً وألبس هذه الشخوص عزيمة وإصراراً على النضال من أجل القرى الفلسطينية وبيوتها وحقولها وأشجار البرتقال والزيتون التي اغتصبها المحتلون. وقد خرج لؤي في تلك اللوحات عن صمته المعهود، وابتعد عن واقعيته، فجاء المعرض حدثاً مدوياً هز وجدان الجماهير المتعطشة لنصرة كرامتها واستعادة عزتها. لقد كان حدثاً قومياً لاهباً إلى جانب ما اتصف به من نجاح فني رائع.‏

طاف لؤي بمعرضه هذا في أرجاء المدن السورية ليلهب حماسة الأمة. انطلق من حلب إلى حماه وحمص واللاذقية. وفي مدينة الساحل تناهى إليه نبأ النكسة التي نزلت بشعبه وأمته. نكسة حزيران التي أصابته بأزمة نفسية حادة لم يستطع معها احتمال النبأ وفداحة الخطب. فأقدم على حرق جميع لوحات هذا المعرض.‏

عزلة ممضة‏

وتفاقمت أزمته وتفجرت أحزانه فأحجم عن الرسم مدة ثلاث سنوات متواصلة.‏

اعتزل فيها العمل الوظيفي، حيث كان قد عين مدرساً لمادة التربية الفنية في ثانويات دمشق، ثم مدرساً لمادة الرسم ومبادئ الزخرفة في المعهد العالي للفنون الجميلة. ثم أحيل إلى التقاعد بسبب حالته الصحية السيئة. فمضى إلى إيطاليا للاستشفاء ولكن دون جدوى، فجر أقدامه المشبعة بالحزن والألم قاصداً مدينة حلب، حيث أمضى أخريات أيامه. وأقام في غرفة متواضعة في حي السبيل كان فيها طريح الفراش يعاني من اكتئاب وعزلة ممضة. يرفض زيارة الزائرين بما فيهم الأقارب والأصدقاء. وفي العشرين من كانون الأول عام 1978م توقف النبض، وأغمض لؤي الجفن، وودع الحياة في أحد مشافي حلب، بعد حياة لم تكن طويلة أمضاها بقدرة على العطاء ورفد الحركة التشكيلية بأعمال خلدت لؤي الكيالي، وما تزال تعتبر مناهل للعقل والروح والنفس.‏

إن لؤي الذي هزمه المرض النفسي في حياته، واختطف منه القدرة على الرسم في أخريات أيامه، لم يستطع أن يجرده من عبقريته في شرح أفكاره، وإيصال ما يريد عن طريق لوحات كثيرة متنوعة. أصبحت مقتنيات ثمينة في البيوت المترفة، ومازالت تعبر عن إنسانيته وشفافيته، وعن رؤيته العاكسة لأجواء الحياة. لقد وضع في لوحاته كل ما يؤرق المتلقي ويؤكد ذاته. فاستطاعت أن تثبت لمبدعها حضوراً مميزاً، وخصوصية متفردة أوصلته إلى القمة في دنيا الفن التشكيلي.‏

ويمكننا أن تقول عن فن لؤي ما قاله هو عن فنّه: «إنه فن روحاني. عبر عن الكثير من إحساس الناس تجاه قضايا دينية واجتماعية، وسياسية وبإغراق في الشعبية». لقد كان فناً جماهيرياً، عبر عن رغبات وأحلام الناس وهو مايزال في الثالثة والأربعين من العمر.‏

لقد رسم بريشته الساحرة، وأنامله المبدعة، وبمثابراته الدائمة، الوجوه البشرية فأبرز ما تخفيه تقاسيم الوجوه من اعترافات كامنة في النفوس الصامتة.‏

كانت طريقته في الرسم هي طريقة ذات أسلوب واقعي يفضح البهتان، ويصور هموم الشعب وآلامه، كما يعبر عن البطولة الملحمية للمقاومة الباسلة، والتمسك بالمفردات والأشكال الشرقية التي تنطلق من المجتمع العربي، وتسلط الضوء على تفاصيل الحياة اليومية للفئة التي ينتمي إليها غارقة بحزنها وفرحها ومشاكلها وهمومها. وهذا مما جعل الدارس والمتتبع لأعماله، يدرك أن لؤياً قد تجاوز فيها حدود المنظر الاعتيادي والمألوف، بحثاً عن مشارف التعبير عن واقع الإنسان العربي المأزوم. لقد أبدع في تصوير الطفولة المعذبة، ولا سيما الأطفال الذين تجبرهم ظروف الحياة القاسية على العمل، فبدت في وجوه هؤلاء مسحات من الحزن العميق، والصبر المرير، والتصميم على العمل بروح عصامية تضمن لهم حياة كريمة. جاء ذلك كله في لقطات ساكنة تظهر تعاطفه معهم.‏

لقد كان لؤي في الواقع من أكثر الفنانين التشكيليين السوريين الذين رسموا الطبقة الشعبية، وطبقة الكادحين في المجتمع. وهو يعتقد أن الفن قوة، والفكرة قوة واللوحة عليها أن تنشر القوة وتدعمها، وأن تثير بألوانها حماسة الإنسان وقوته ليصبح قادراً على مجابهة الشر ومكافحة الظلم كما في صورة الفقير مثلاً.‏

لم يقف لؤي كيالي في إبداعه على فن الرسم، بل مارس النحت أيضاً.‏

وكان نحته ملوناً. حيث يلوّن منحوتاته كما كان يفعل الفنانون الإغريق في تلوين منحوتاتهم. وقد عبر عن فنه في رسم لوحاته تعبير نحات، وليس تعبير رسام زيتي فقط.‏

نبضات القلب‏

وقد جعل إنتاجه في عدة مراحل، فكان في بعضه أكثر قرباً من (مايكل أنجلو) من حيث الحركة الإنسانية ضمن إطار اللوحة كما كان يقول. مع أنه قد استخدم ألواناً أكثر تضاداً من ألوانه، وأكثر تأثيراً في النفس. كما كان لؤي كيالي يقترب أحياناً من (فان غوغ) لكنه يبتعد عنه من حيث لمسات فرشاته الفنية.‏

هذا هو لؤي كيالي شهيد الحزن والمأساة العربية، عاش نكباتها وهمومها وصور بأنامله السحرية حياة البائسين والمحزونين من أبناء أمته ووطنه في فن جماهيري واقعي منحه لؤي أجمل نبضات قلبه المجروح، وأروع خفقات مشاعره وأحاسيسه، فتربع على عرس الإبداع، وغاص في قلوب المعجبين المقدرين جمال لوحاته في سفوح فنية مترعة بعطر الابتكار والعطاء. إنها لوحات تمنح المتلقي فسحة من الشفافية والمتعة حين يستنطق الخطوط والإشارات والألوان.‏

ويشكلها تشكيلاً جدلياً، ويمازجها ممازجة حارة، تنظمها يد سحرية تستخرج فلسفتها، وتجعلها دلالة راقية على تفاصيل الحياة اليومية فتوحي بالجمال، وتمتلك العاطفة، وتحرك الوجدان.‏