International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> مكاشفة تأخرت ربع قرن

Article Title : مكاشفة تأخرت ربع قرن
Article Author : د.عمر ألتنجي
Source : رؤى ثقافية
Publish Date : 2003-09-13


رؤى ثقافية العدد ( 4 ) – 13 أيلول - 2003
مكاشفة تأخرت ربع قرن د. عمر ألتنجي
لا أريد للحديث عن الفنان الراحل لؤي كيالي أن يكون كلاما في التاريخ الماضي ، إلا بقدر ما يكون فاعلا و مؤثرا في الواقع الحالي ، كما لا أريد له أن يكون حديث ذكريات قضت إلا بقدر ما تكون فاعلة و مؤثرة في مشاعرنا ووعينا الآن . لا أريد له أن يكون بكاء على الأطلال ، بل كاشفا عن أحداث و عوامل و آليات و نتائج .
لقد كتب الكثير بالتأكيد عن لؤي و عن فنه و عن نهايته المفجعة. لقد كتبت مرة واحدة فقط – فيمن كتبوا – عن أول معرض أقامه بعد نكسة حزيران – نكسته، و بعد صمت طويل، سنة 1974 في صالة الشعب للفنون الجميلة في دمشق . و منذ ذلك الحين و أنا أحمل عبئا ثقيلا في نفسي ، أحمل ذنب عدم الكتابة لسببين ، الأول إن أعمال لؤي تستحق الكتابة مجددا ، و الثاني إن هنالك ما يجب أن يقال ، و أظن أن أحدا لم يقله علنا .
كنت قريبا من الفن و الفنانين حين حضر لؤي من دمشق إلى حلب بعد أن مزق لوحات معرضه الأخير في سبيل القضية بسبب نكسة 1967 و توقف عن الرسم . لم أكن أعرفه شخصيا، تعرفت عليه في مقهى القصر، و منذ ذلك الحين لازمته. كثيرا ما كنا نجلس صامتين ننظر إلى الشارع .
لم تكن الفترة السابقة مسالمة بالنسبة إلى لؤي ، فقد عاد من إيطاليا شابا وسيما جريئا مفعما بالحيوية . كان يتمتع بقوة فنية أكاديمية متميزة مكنته من طرح نفسه و فنه بثقة و تحد . إن من يطلع على أعمال لؤي ما قبل أزمته و ما بعدها يكتشف أنه أمام فنان غير عادي : قوة في الخط، براعة في التكوين ، غنى لوني أخاذ ، جماليات راقية، مواضيع بسيطة حميمية ، واضحة ، أسلوب ناجح تماما في إيصال ما يريد الفنان .
هكذا يمكن وصف فن لؤي كيالي إذا لم يكن هدفنا الدخول في التفاصيل . إلا أن هذه المزايا الشخصية و الفنية قد لا تجلب الود دائما ، و خاصة أن لؤي كيالي خالف المدرسيين و " الحداثيين" في آن واحد ، و لم يكن يجيد الدبلوماسية كثيرا كعادتنا نحن الحلبيين، لذلك سمعنا أيامها أنه لم يكن على وفاق كبير مع بعض زملائه . كما أن عددا من مثقفي تلك الفترة لم يكونوا يكنون له كل الود.
عاد إلى حلب بعد أزمته ، و كنا نجلس صامتين، و عموما كان لؤي قليل الكلام فقد كان ضعيفا "إيديولوجيا"! ثم بدأ يتعافى تدريجيا و يتجاوب مع الأصدقاء و المعارف، و لكنه كان ما يزال هشا سريع العطب. لم يعرف الخبث، بل كان بسيطا طيبا، قد ينفجر ضاحكا كالطفل لسماع طرفة، و قد يحتد في الكلام لسماع ما يعتقده سيئا أو لا أخلاقيا، لكنه في كل الأحوال كان شديد التهذيب .
بعد عامين من أزمته عاد يرسم ببطء ، و كانت فرحة الجميع كبيرة حين أحضر أول لوحة منجزة و علقها على الجدار في مقهى القصر .
لم تكن النظرة إلى اللوحة في تلك الفترة نظرة إلى سلعة للبيع أو التسويق ، بل كان هم الفنان هو ما يشغل بال الفنانين. و قد درجت العادة آنذاك أن يأتي الفنان الشاب إلى المقهى ليدعو لؤي لزيارته و مشاهدة بعض الأعمال التي رسمها، و كنا نذهب معا أغلب الأحيان. كان لؤي يتأمل الأعمال بجدية و روية ، و يبدي أحيانا بعض الملاحظات الضرورية. لم يحدث للؤي أن لم يشجع فنانا حتى و لو كان قليل الخبرة أو ضعيف الموهبة. أن ترسم هذا حقك و هو يشجعك عليه ، أما أن تقيم معرضا فنيا في صالة المعارض في متحف حلب الوطني فهذه مسألة أخرى، و لؤي لن يمنح بركاته إلا إذا كانت الأعمال في المستوى المناسب بالفعل. هذه العادة جعلت من لؤي رقيبا على الفن التشكيلي في حلب من دون قصد منه، و الأصح القول إن حالة نقدية فنية جادة تكونت في حلب غير مقيدة بأسلوبية معينة هدفها الحفاظ على المستوى الفني و الذائقة الفنية كان لؤي كيالي محورها.
استاء بعض الأشخاص من أصحاب الطموحات الكبيرة و المواهب الصغيرة ، أو ممن يكرهون حلب، أو ممن لا يتحملون رؤية الفن الجاد، من هذه الحالة و قرروا تدميرها. أنا لا أتوهم أو أحمل في رأسي ذهنية المؤامرة، فهذا ما حدث بالفعل، لقد تم تحديد الهدف و هو الحلقة الوسطى الأقوى فنيا و الأضعف نفسيا.
كنت في البداية أشعر بضرورة وجودي بقرب لؤي لأبعد عنه العابثين الساخرين، و فجأة بدأت أحس أن هنالك من يتودد و يتقرب من هذا الفنان الحساس البريء ليكسب ثقته و يضر به من الخلف. و قد ناقشت هذا الأمر مع لؤي أكثر من مرة، لكنه لم يصدق أن بعض الأشخاص المقربين منه من فنانين و غير فنانين يمكن أن يسيئوا له، أو أن يصعدوا على أكتافه، و على شهرته بانتظار اللحظة المناسبة لضربه ، لذلك كان يمنعني أحيانا من الضغط عليهم بقوة.
و تشاء الأقدار أن أوفد للدراسات العليا خارج القطر سنة 1975 فابتعدت عن لؤي ، و فقدته إلى الأبد. لا أريد أن أقدم نفسي في صورة البطل المنقذ، لكن هؤلاء الأشخاص استغلوا ضعف الحماية التي كان لؤي محاطا بها ، كما استغلوا حاجته إلى الأصدقاء ، و إلى ندماء السهر ، فراحوا يحاصرونه و يسخرون منه، و يعبثون به ، مما زاد في إحساسه بالوحدة و الغربة و الوحشة ، و دفعه إلى الانتكاس و تعاطي المهدئات ، مما أوصله أخيرا إلى الحادثة المفجعة، فاحترق.
و قد كانت صدمتي كبيرة حين فوجئت بسنة 1978 بقراءة نعوته مصادفة في الصحف السورية خارج القطر ، و كثيرا ما تساءلت : لو لم أسافر هل كنت يا ترى أستطيع بصداقتي التأثير في الأحداث التي جرت ؟؟ و قد نقل لي بعد عودتي قوله حينما كان في المستشفى على فراش الموت : إن قدرت له الحياة فسيقيم معرضا خاصا يرصد ريعه بالكامل للقضية الفلسطينية .
حاولت مع بعض الأصدقاء من الفنانين إعادة تكوين تلك الحالة الجادة لدعم الفن و الفنانين ، لكن محاولاتنا باءت بالفشل ، و لم يكن الفشل عفويا دائما . و النتائج واضحة و ملموسة :
فقدت الحركة الفنية في حلب ، و في القطر، عموما ، واحدا من أبرز مبدعيها ، و فقدت حلب ناظما متميزا لحركتها الفنية .
لست الوحيد الذي يعرف الأمور الذي ذكرتها، لكن يبدو أن الوقت قد حان لذكرها ، أو أن التأجيل أكثر من هذا لم يعد ممكنا و لا مقبولا .

أستاذ في كلية التربية . جامعة حلب.