International Plastic Artist LOUAY KAYALI
   

Home >> Press Releases >> مأساة لؤي كيالي من البداية و حتى النهاية كفنان و كإنسان

Article Title : مأساة لؤي كيالي من البداية و حتى النهاية كفنان و كإنسان
Article Author : صلاح الدين محمد
Source : جريدة الثورة السورية - الملحق الثقافي
Publish Date : 1979-01-03


الأربعاء 3-1-1979
مأساة لؤي كيالي من البداية و حتى النهاية كفنان و كإنسان بقلم صلاح الدين محمد
لم أكن أعرف أنه سيموت .. كيف يموت ؟ من قتله ؟ .. لقد قتلوه و لكن هل يموت إنسان كلؤي ..؟ أه كم أذهب بعيدا و لا أذهب .. المجتمع كان مسؤولا عن جنون فان غوغ و انتحاره .. كان مسؤولا عن مونش و ضياع تولوزلوتريك و الموت المبكر لأسعد المدرس و نيكولاس دي ستايل و فتحي محمد .. كان مسؤولا عن هواجس غويا و جوع موديياني و سوتين .. و عن سجن دومييه و تشرد غوغان .. آه كم أذهب بعيدا و لا أذهب .!؟
كانت الأخبار تتوارد من حلب ، لؤي رجع إلى انهياره ، لا يأكل ، انعزل ، يسير آخر الليل و تمتزج ضحكاته مع رنين الأرصفة الحمقى و هي تودع آخر المتسكعين .. لؤي يضعف و يضعف .. يتشنج .. ترتجف يداه .. لؤي يتثاقل في مشيته .. لؤي ينتهي .. لؤي يحمل وجهه المهشم و يلقي بساقيه المثقلتين على كتفه .. و يمضي .
لا أحد يحرك ساكنا و الأشهر تمضي .. و برقية تأتي لنقابة الفنون الجميلة في دمشق من فرعها في حلب
تقول ـ لؤي في خطر ، نخشى عليه من الموت ، أخبرونا كيف نساعده و ما هي الخطوات التي يجب اتخاذها .. – و اطلع على نسخة البرقية و أخذ منها – فوتو كوبي - .. إلى جريدة الثورة لألتقي مع الصديق محمد عمران و أخبره بما يجري مع صديق العمر لؤي و أريه البرقية .. و كان الموقف حساسا .. و لؤي حساس أكثر .. و كنا نخشى من المضاعفات .. و هو يحمل كبرياء العالم كله .. و نحن لا نملك سوى هذا القلم المسكين .. و تصرفنا ضمن معقولية ما يمكن عمله .. و لم نسمع عن أية تدابير من أي جهة كانت لمساعدة لؤي .. و لم أكن أعرف حدود المأساة و واقعها و سافرت إلى حلب .
في مقهى القصر لقيته .. احتضنني .. قبلني و قبلته .. صافحني و أراد أن يصافحني بحرارته المعهودة بالشد على الكف ..و لكن أصابعه كانت تخونه .. كانت لحظة بحجم حزن العالم .. أهذا لؤي حقا ؟ .. عينان تنسحبان في العمق و العظم يطفو على الجلد .. و اللحية لا تجد لها مكانا على مساحة الوجه الذي بات ينكمش إلى الداخل و أصابع متعبة كالموت تقرب السيجارة من الشفتين اليابستين المقشرتين .. و لكنها تتلوى كمن يتلقى صدمة كهربائية تحت التعذيب .. و الجسد المسكين في حركة لولبية لا تعرف قرارا و لا استقرارا .. أو أنه الجحيم بعينه.. فأي جحيم أكثر جحيما ينتظر هذا القلب ؟؟
إنه يسألني عن صحتي و عن وضعي ..و هل رحلت أيام الحرمان ؟ أي أسئلة هذه في هذا الزمان الصعب .. و أي جسد يحكي .. ماذا حدث معك ؟
- لا شيء سوى أنني لا أكل إلا سندويشة واحدة و فنجان قهوة في اليوم .. و أخذ كمية من حبوب الفاليوم و أنام .. أنام طويلا و لذا تراني قد ضعفت و نقص وزني أكثر من عشرين كيلوغرام -.
كان هذا في 8-9-1978 .. و في 11-9-1978 .. و أنا في مقهى القصر يخبرني بكري مضيف المقهى و صديق الفنانين .. بأن لؤي قد احترق البارحة .. و نهرع إلى مستشفى حلب الجامعي مع الأصدقاء – إسماعيل حسني – أنور محمد .. - .. و لؤي في عرسه الجهنمي .. وجه مكابر يحمل نبل الأيام السابقة .. و عنفوان الزمان .. في ماراثون مع الموت حروقات مفزعة و لكن الوجه سليم .. و القلب سليم و اليد الأيمن سليم . و القصة بدأت و انتهت كالتالي :
يفرغ علبة من الفاليوم في المعدة الخاوية .. في منزله الذي استأجره مؤخرا خارج حدود المدينة .. و يسحب
أخر الأنفاس من السيجارة الكارثة .. النوم يزحف على عضلات العين و يسكن الأعصاب .. و هو مستلق على فراشه .. بل تابوته .. و ينهار في نوم كدهاليز الموت .. الفراش يحترق .. و لؤي يحترق .. و قسم من البيت يحترق .. و يأتي الجيران و يأخذونه إلى المستشفى ..
.. و ارجع إلى دمشق لأروي الحادثة الجلل .. و لنعمل ما وسعنا عمله .. و تتناقل الخبر كل الألسنة و الصحافة هنا و خارج هنا .. و ينقل لؤي إلى دمشق على طائرة هليكوبتر عسكرية .. فمستشفى حلب لا يملك اختصاصات في جراحة الحروق .. و يجد رعاية معقولة .. بل كافية كما أخبرني عندما زرته و ناديا نصار و عزمي مورلي في مستشفى حرستا .. و يقول لي حينئذ بعد أن سأل عن كل الأصدقاء .. لقد أحرق البوذي نفسه من أجل فيتنام .. و يشير بشكل خاطف إلى كامب دايفيد .. و كان لؤي في تلك اللحظات رغم بشاشة وجهه و قوة إرادته .. و جبروت مقاومته كان يعاني ألاما مبرحا و عذابا جسديا لا يطاق فالقسم الأعظم من الصدر محروق حتى ما فوق الركبتين .. و نسبة الحروق من الدرجة الثالثة أي خطيرة جدا و يشغل 20 بالمائة من مساحة الجسد .. و كانت هذه أخر مرة ألقى فيها الفنان و الصديق لؤي كيالي ..
تجرى له عدة عمليات جراحية .. و لكن ! ينقل بعد فترة إلى غرفة الإنعاش .. حيث أمل النجاة ضعيف جدا .. و تنقطع عنه الزيارات و الأخبار تنحصر في الخطورة الحقيقية في وضعه..ويموت لؤي بتاريخ 26-12-1978صباحا .. بعد معاناة هائلة استمرت -108-يوما ..
أما الحقيقة فإن المعاناة تذهب إلى أبعد من تلك الفترة بكثير و قد مات فناننا الكبير على مراحل .. والمرحلة الجدية الأخيرة هي التي نبهت بعض الشيء المسؤولين لإنقاذه .
و سأحاول هنا أن أرجع إلى الوراء بقلبي الدامي على الكتل الملحية .. مع فناننا و مع الحقائق التي لا يجب ألا تخفى على الوطن و التاريخ و الإنسانية :
كان لؤي في خريف 1977 قد قرر تماما .. السفر إلى روما و قد أعطى الحجج التالية – تغيير الجو – الإطلاع – زيارة الأصدقاء – وقال وقتئذ بأنه إذا ارتاح هناك فسيبقى بعض الوقت قد يطول أو يقصر .. فيبيع بيته و بعض أدواته الفنية ويهدي بعض اللوحات إلى أصدقائه – بدأ الإهداء في الصيف واستمر به حتى لحظة المغادرة .. وهذا الشيء سابقة لا مثيل لها في حياته من قبل - .. ويدفع الديون المتراكمة عليه بالإضافة إلى ديون المصرف العقاري – اشترى بيته بسلفة – و بقي معه بعض الأموال التي تكفيه لبضع أشهر كما أخبرني – حتى يتمكن من الرسم و بالتالي يستقر ماديا .. و أتى إلى دمشق في أواخر تشرين الثاني وكنت قد استقريت في دمشق منذ أشهر .. والتقينا مطولا في مقهى الإتوال .. و كان متفائلا إلى حد بعيد .. وسهرنا قبل سفره سفرة مطولة حتى الصباح وقد أظهر وقتها جدية في البقاء في إيطاليا .
ويسافر لؤي إلى إيطاليا وأستلم منه رسالة تقول :
أخي صلاح : تحية طيبة ، وصلت روما بخير ، أملا لك كل سعادة .
مع تحياتي للجميع
لؤي ، روما 18-12-1977
هذا الاختصار الشديد في الرسالة كان يعني لي الكثير .. ربما و كما اعتقدت وقتئذ اختصارا من نوع أخر .. و هذا ما حدث بالتحديد فيرجع لؤي بعد أن يمكث هناك شهرين و نيفا .. و نلتقي مطولا .. و تجمعنا جلسة مع الفنانين - جورج عشي – تركي محمود بك - .. و كان الحديث كله ينصب في نقطتين :
أولهما : استياء لؤي الشديد من روما .. لاستفحال النظرة التجارية والزعبرة والنشترة في الفن هناك .. وأنه لا يستطيع إلا أن يعيش جاداً وشريفاً .. وعليه أن يقضي باقي حياته في وطنه .
ثانيهما : البحث عن مرسم بالإيجار في دمشق .. و قد أخبرني بأنه مطلب ملح جدا و قال وقتها أن بعض المراسم ذو إيجار مرتفع جدا والبعض بعيد جدا عن مركز المدينة .. وإذا لم يجد في دمشق مرسما ضمن إمكاناته فسيستقر حتما في حلب . و هذا ما حدث بالفعل و غادر إلى حلب .
بقي فترة طويلة بدون منزل أو مرسم ... و بحثه الدائم عن المرسم لم يثمر .. و بدأت أحواله المادية تسوء .. بل تسوء جدا .. وكان قد رسم في روما بعض اللوحات – طبيعية – وقد باعها أيضا .. و أخيرا وجد مرسما بسيطا خارج حدود المدينة الغربي .. وقتها كان لؤي يقترب من الانهيار ويخفي جروحه .. و كان قد انقطع تماما عن شرب الكحوليات .. و أراد أن يعوض عن ذلك بحبوب الفاليوم .. و أخذت معه هذه الحبوب خطا تصاعديا .. إن من يعرف لؤي جيدا .. يعرف أن الحالة نتيجة لموقف داخلي و مأساة داخلية أي أن الحالة ليست سببا لحالة .. بل نتيجة تراكمات نفسية في حالة من الغليان و ضغوطات داخلية رهيبة .. و بدأ يراقب الدمار كيف يزحف في عروقه و استمر في التدمير .. و لم يبق أمامه طريق الخلاص سوى ذلك .. و هذا لا يعني بأن لؤي كان ضد الحياة .. بل كان معها إلى أبعد الحدود .. و لعله وجد طريقة جديدة في الحياة ...
كان كل هذا يحدث على مرمى من البصر .. و أمام الجميع .. كلهم شهدوا موته البطيء .. و راقبوا تقلص المسامات في جلده .. و هجرة الدم من شرايينه و هو ملقى على كرسي من كراسي مقهى القصر ظهيرة كل يوم – يوميا من الواحدة و حتى الثانية .. يتناول بعدها سندويشة واحدة و يذهب إلى البيت لينام و قد استمرت الحالة هذه حتى احتراقه أي لمدة خمسة أشهر. و كان يمكن تدارك الأمر – و قد سبق تدارك الأمر معه مرات عديدة 1968 و 1971 - ... و لكن كان علينا أن نجده يحترق تماما حتى نشعر بهول حالته .. و هذا ما حدث تماما .
و لو أردنا الرجوع قليلا إلى الوراء و قبل سفره الأخير إلى روما – سافر أيضا في عام 1975 و رجع بعد فترة قصيرة .. و كان قد قرر وقتها أيضا البقاء هناك – لوجدنا أنه كان في حالة جيدة جدا و يمكن لكل من يعرف لؤي جيدا أن يعرف بأنه يسافر في الأحوال النفسية الجيدة – الذهاب إلى اللاذقية مثلا أو أرواد أو دمشق أو عفرين كفرجنة – و لذا فعندما طلبت منه أن نسافر سوية إلى الرقة 23-10-1977 وافق فورا – رافقنا أنور محمد أيضا – و كانت فرصة مناسبة لحضور معرض الفنان سعد يكن في المركز الثقافي هناك ، و قد أخبرني وقتها بأنه كان سعيدا جدا و قد غادر إلى حلب في اليوم التالي لأغادر بدوري إلى دير الزور في مهمة و كان دائم التساؤل وبتفاؤل كبير .. بأن مستقبله في البقاء أو المغادرة منوط بجملة أمور أهمها المكان الأكثر استقرارا الذي يؤهله للعطاء .
- أحداث هامة في حياته –
إن هناك أحداثا كثيرة جدا في حياة فناننا ... و تعتبر حياته كلها هامة جدا و كأني به أو – بقدره .. ! – بأنه كان يعرف بأنه لن يعمر طويلا .. و هل يستطيع إنسان حساس مرهف إلى هذه الدرجة أن يعيش طويلا ؟ و
هل من يملك هذا الفن و كل هذا العطاء أن يعمر طويلا ؟ و هل من يملك كل هذا الحزن و التمزق الداخلي أن يكون غير لؤي كيالي .
إن هنالك أشياء عديدة لا يمكن أن نذكرها الآن و سنتركها للأيام و التاريخ مع قناعتي التامة بأن حياة لؤي بقيت الآن ملكا لأمة بكاملها .. و لتاريخ يجب ألا يذكر فيه غير الحقيقة و سأحاول أن أسرد هنا أهم النقاط في حياته و التي توضح مأساته في الحياة و استهتار المجتمع به بشكل من الأشكال و بالتالي انعكاسات ذلك على فنه :
1934 : يولد الفنان في حلب و يموت والده حسين بعد فترة ليعيش يتيما و وحيدا – من ناحية الأخوة – و تتزوج أخواته ليرعاه عمه و من ثم عماته ليس له أخوة سوى أخ من أمه لم يلتق به إلا قليلا .
1945 : يقول لؤي كايلي : كانت بدايتي الفنية في هذه الفترة عندما قمت برسم تخطيط سريع لجدي على اللوح الحجري الذي كنت أستخدمه في المدرسة الابتدائية و كان الشبه واضحا بين ما خططت و بين جدي ، و شجعني بعض أفراد عائلتي و بدأت بشراء بعض الصور الملونة لكبار الفنانين – ليوناردو دافنشي – كلوحة العذراء و الطفلين و بدأت بنقل هذه الصور على القماش و بالألوان الزيتية دون أي خبرة سابقة حتى أنني الأولية اللازمة ، فجاءت أعمالي تقليدا هجينا و أعمى .
و دخلت المدرسة الإعدادية و بدأت بالرسم عن المواقع و كانت المواضيع غالبا تمثل طبيعة صامتة – فخارة مثلا – و منفذة بالرصاص أو الفحم و بتوجيه من الأستاذ غالب سالم – ساهم غالب سالم في رعاية كثير من الفنانين منهم الفنان الراحل فتحي محمد – و كنت أحصل على علامات جيدة و من ثم بدأت بدراسة تاريخ الفن و استمريت في رسم اللوحات المنقولة ، و كنت معجبا ببعض الممثلين و الممثلات و الأساتذة فقمت بتكبير رسومهم و صورهم – كان لؤي يرسم لوحات لنساء جميلات جدا و بدقة بالغة و كثير من الناس ما زالوا يعرفونه من تلك اللوحات التي كان يعرضها في أحد المحلات في حلب و قد زال المكان الآن .. و قد ذكر أحدهم أمامي كلمات إعجاب شديدة من شخص للوحة في تلك الأيام لفتاة جميلة رسمها لؤي و إلى جانبها زهرة حية و يقول الشخص بوجود لؤي كانت لوحتك تنطق بالحياة أكثر من الزهرة -، و أضيف جملة معترضة – و الكلام للؤي – بأنني كنت أمارس ألعابا رياضية لكرة القدم و السلة و الطائرة و الطاولة و السباحة – استمرت قوة بنية لؤي طوال حياته باستثناء فترات الأزمات التي كانت تشهد ضعفا عاما في جسمه و ما يمكن قوله هنا بأن الفنان لؤي كيالي قد رسم بعض المواضيع الملتزمة في بداياته مأخوذة من الواقع كلوحة – دليل الأعمى – و تمثل شيخا ضريرا يقوده طفل من يده ، و لوحة – الشحادة – و كان يستقي بعض الأعمال من الخيال كلوحة – الزوادة – و تمثل عاملا بائسا يحمل عصا عليها زوادته من الطعام ، و قد رسم في الفترة نفسها أعمالا عديدة عن الطبيعة و لكن لم تكن شخصيته قد تبلورت بعد .
و من ثم تأتي مرحلة التأثر بالصور الفوتوغرافية و النقل عنها .. كتكبير الصور للأقارب و الأصدقاء و المعارف و رسم بعض لوحات لنساء جميلات جدا مؤلفة من مقاطع مأخوذة هنا و هناك ، و كانت الصياغة شبيهة بالفوتوغرافية .
- 1956- يتقدم الفنان إلى فحص البعثة التي أعدتها وزارة المعارف لإيفاد طلاب يدرسون على حسابها في أوروبا ، و كان الفحص يتألف من رسم لوحة طبيعية صامتة بالألوان و مأخوذة من الواقع و من ثم رسم امرأة
عجوز من الخيال منفذة بالرصاص و سؤال في الثقافة الفنية و كانت النتيجة بأنه كان الأول و الوحيد .. و يغادر إلى روما في عام 1957 .
لم يدرس الفنان التصوير الزيتي .. بل درس التصميم الداخلي – الزخرفة – و قد حصل على شهادته من قسم الزخرفة و قد أثر هذا مؤخرا في تكوين لوحاته الصارم و من الجدير بالذكر بأن الفنان قد قدم أطروحته النظرية في مشروع التخرج حول الفنان فان غوغ الذي كتب عنه مرة :
كما حدث لفنان فان غوغ ، الذي دفعه قلبه الكبير الذي وسع محبة العالم أجمع إلى أن يعمل واعظا – في أوائل حياته – في السجون و المناجم – أعطاهم ألبسته و طعامه ، ثم دفعه حبه للناس الذين لم يفهموه أبدا و لقبوه بالمجنون إلى أن يقطع أذنه ليقدمها إلى امرأة أعجبت بها تعبيرا عن محبته لها ، رفضوا محبته لأنهم لم يفهموها و لم يعتادوها فرفضوه هو أيضا فتخلى عنهم ،و لكنه لم يتخلى عن محبتهم لهم ، إذ لجأ إلى الرسم إلى الألوان ليعبر عنها ، لكنهم رفضوها من جديد فاضطر هذا – أعطاهم كإنسان – و رفضوا و أعطاهم كفنان فرفضوا – إلى أن يتخلى عنهم و عن محبتهم بهروبه الكبير إلى الطبيعة ليعيش معها مأساة جديدة ، ها هي تعطيه و تعطيه .. جعلها تصرخ و سماء غضبى ، أشجار من الزيتون ملأى بالخير تحت أشعة الشمس ، أشجار يقصف بها الألم و حقول من القمح تموج بالعطاء ، إن الطبيعة أعطته لكنها رفضت عطاءه كما رفضت حبه للحياة ، و أخيرا تحطمت هذه الموهبة الخلاقة المبدعة المعطاءة برصاصة مسدس أطلقها هو هروبا من ذات الحب العرم للناس و الطبيعة و الحياة .. إنه انتهى كحياة و لكنه بقي أعماله خالدا يفيض بالخير و المحبة و العطاء لنا نحن الإنسان .
و كأني بلؤي يحكي عن نفسه .. فقد عاش مع فان غوغ وجدانيا حتى الأعماق و يقول بعد ذلك بسنوات طويلة – حزيران 1976 - :
إن اقترابي و ابتعادي عن فان غوغ كما في التجربة الحياتية .. إن تعاطفي مع فان غوغ هو كتعاطفي مع كل إنسان عبقري أو مع كل إنسان بائس .
لقد كان الكيالي معجبا بشدة بفان غوغ . و من صدف الحياة أن ينتهيا إلى نفس النهاية .. و قد أثر فيه كثيرا و يمكن أن أوضح هنا أهم التأثيرات الفنية و أوجهها على فن فناننا :
1- فان غوغ .. و عنفه في الموضوع .. بل اختيار المواضيع ذاتها البؤساء – الطبيعة – القوارب ... الخ و حتى حياته أيضا – الانهيار النفسي طريقة الموت – العمر .
2- مايكل أنجلو ، عنف الحركة عنده و القوة في التشريح و المتانة في التكوين .. و حياته أيضا – المواقف الحياتية الحازمة - .
3- موديلياني ، الحظ عنده و فرش الألوان نسبيا و حياته – الصخب – السهر – و طريقة الحياة نسبيا -.
إن تأثر فناننا أخذ شكل التاخي .. و لا يعيبه هذا .. بل كون من خلال شخصية متفردة في تاريخ الفن كله و خلق وجوها كيالية واضحة المعالم و خطا فكريا ناضجا ضمن منهج لم يحد عنه على الإطلاق .. و أسأله مرة ما السبب في تركك اللحية هل هو محبة لفان غوغ و مايكل أنجلو ؟ فأجاب بكل بساطة لم لا .. بالإضافة بأن
اللحية تروقني و تناسبني .
و في هذه الفترة يؤكد فناننا حضورا قويا على الساحة التشكيلية الإيطالية و هو ما زال على مقاعد الأكاديمية.. و يعمل معرضين متتاليين في كبريات صالات العرض في روما – عام 1959 في صالة لافونتا نيللا ، 1960 في قصر المعارض – و حاز على إعجاب النقاد و كتب عنه الكثير حتى ذهب بأحد النقاد إلى القول – فغزينيتي- لؤي وجه للحضارة العربية المعاصرة – و حاز على جوائز عديدة و هامة – 1958 جائزة مسابقة سيسيليا ، 1959 الميدالية الذهبية في مسابقة رافينا ، 1960 الجائزة الثانية في مدينة كوبيو – الجائزة الثالثة في مدينة آلاتري .. و جوائز أخرى عديدة – و حصل على شهادة أكاديمية الفنون الجميلة في روما قسم الزخرفة في عام 1961 .
-1961- إن هذه الفترة تبدأ من عام 1961 – 1967 أي بعد رجوعه إلى الوطن إلى مرحلة ما قبل الانهيار الأول ، و قد عين فناننا فور رجوعه مدرسا للتربية الفنية في ثانويات دمشق لينقل بعد عام 1962 إلى كلية الفنون الجميلة لتدريس الفنون و قد أقام في تلك الفترة المعارض التالية – 1961 صالة الفن الحديث بدمشق – 1962 صالة الفن الحديث بدمشق – 1964 صالة كايرولا بميلانو ، 1965 صالة كاربين روما – و كان أخرها معرض في سبيل القضية – نيسان 1967 – في صالة المركز الثقافي في دمشق و قد تجول المعرض في بقية المحافظات .
و من الأمور الواضحة تماما بأن لؤي قد بذل جهدا هائلا في هذه السنوات القليلة بعمله لكل هذه المعارض الإفرادية بالإضافة إلى اشتراكه في كافة المعارض الجماعية التي أقيمت وقتئذ ، و لعل معرضه الأول الذي أثار ضجة لم تحدث في أي معرض آخر على الإطلاق .. و بيعت كل أعماله .. و كانت العملية سابقة ليس لها مثيل و أصبحت الصحافة تهتم بشكل ملفت للنظر لفناننا حتى غدا معروفا تماما في الأوساط المثقفة و الرسمية و الجماهيرية خلال العام الأول من قدومه و كان لا بد لهذا النجاح الهائل أن يلقى رد فعل آخر من قبل الذين بقوا طويلا يصولون و يجولون في الساحة التشكيلية و خاصة بأن وضع مفردات جديدة و طرحا جديدا و أسلوبا جديدا و مواضيع جديدة للفن السوري .
و كما أخبرني لؤي مرة بأن أحد النقاد قد ركله بقدمه في دمشق في الستينات و هو يصعد الدرج و قال له – إنني الذي رفعتك و خلقت منك فنانا و أنا الذي سأجعلك تدفع الثمن و أنزلك إلى الدرك الأسفل - .. و رغم ما في هذا الكلام من إجحاف بحق فناننا فإن ذلك كان يعكس العقلية المسيطرة وقتئذ .. و كان لؤي يردد كثيرا عن هواجسه في كلية الفنون .. و الرغبة في انعزاله و تفرده ، و كيف كانت الاتهامات الكاذبة توجه إليه حتى أن بعضهم قد ذهب إلى حد نزع لقب الفنان عنه و أنه مجرد رسام فاشل .. و قد قال البعض عن معرضه في سبيل القضية – بأنه كاريكاتير و أن كل واحدة منها ينتهي عند حدود صورتها – و كان هذا تجنيا لا أخلاقيا ينم عن عدم فهم للفن و استهتار بالقيم و قدسية الفن .. فلؤي في هذا المعرض بتعبيريته التي لم يشهد تاريخنا الفني له مثيلا .. و قد أعطى أبعاد كبيرة و أفاقا واسعة للفن التشكيلي ما زلنا نرى صداه و بصماته على جيل كامل من فنانينا الشباب لا داعي لذكرهم .
و اتهمه البعض بأن المعرض هو تقرب من السلطة من خلال تسمية – في سبيل القضية – و قد كشفت الأيام
بطلان هذه الاتهامات و لكنها سببت في الأخير بلبلة داخلية نسبية لفناننا .. لأن النقد لم يعتمد على عملية
الطرح أو الموضوعية في التحليل بل كان النقد كلاما صحافيا تجريحيا لمعرض ثوري تقدمي لم يقدروا قدره و هو صاحب السجل الحافل بالواقف الإنسانية و القومية و الوطنية فقد رسم لوحة – ثم ماذا؟ - الضخمة للاجئين الفلسطينيين عام 1965 ، و عمل الإنسان في الساح 1966 ، كما حدث في الجزائر 1967 و نهاية ثائر 1976 من تحت الأنقاض 1974 و أعمل أخرى عديدة .
- الانهيار الأول 1967 –
كان معرض في سبيل القضية مكرسا لعنفوان الإنسان العربي و انطلاقته و كلها كانت أعمال بالأبيض و الأسود .. و جاءت نكسة حزيران و المعرض متجول في المحافظات و حدث ما حدث .. و يصاب لؤي بصدمة نفسية عميقة فيرجع إلى أعماله يمزقها الواحد تلو الأخر .. و يمزق معها أحلامه و أماله التي انهارت فجأة و يقول لي بعد عدة سنوات – لقد شعرت بأن النكسة قد وجهت إلي بالذات و بأنني أنا المعني من وراء كل ما حدث - .. و أسأله ألست نادما على تمزيق تلك اللوحات الآن فأجاب نعم إنني أسف جدا لقد كانت من أقوى أعمالي .
و تمر الأيام ثقيلة .. بطيئة تجلم على صدر لؤي .. فالأيام ليست منه .. يلقيها بعيدة عنه لقد فقد الإيمان بكل شيء في تلك الأيام .. و بدأت علامات الانهيار عليه .. و يخبرني لؤي بالأحداث التالية أسجلها بحرفيتها :
لم أبع بالطبع من معرض في سبيل القضية و لو لوحة واحدة .. بل مزقتها جميعا .. و مررت بلحظة إفلاس كاملة.. و كان معي عشرون قرشا حينما جلست في مقهى الهافانا و أنا جائع منذ يومين .. كنت أنتظر إنسانا لا أعرفه .. و لكن أحدا لم يأت – انتظار فورييه – كنت بحاجة إلى فنجان قهوة ، و سيجارة فتركت العشرين قرشا على الطاولة و غادرت .. و تذكرت بأني قد رسمت عدة لوحات رائعة للمسيح فتوجهت إلى الكنيسة لأقابل أحد القساوسة – الحديث عن دمشق – و انتظرت طويلا حتى جاء ليوعدني إقراض مبلغ غدا ، و لكني لم أرجع .. و تذكرت بأني رسمت لوحة عن اللاجئين الفلسطينيين عرضت في كثير من دول العالم – ثم ماذا؟ 1965 – فتوجهت إلى منظمة التحرير علني أحصل على عقد فأخبرت بأنه علي الانتظار لأن الأمر يحتاج إلى ترتيبات معينة .. فغادرت إلى الفندق البسيط في المرجة و علي ديون مستحقة من صاحب الفندق و لا يقدمون لي القهوة أو أي شيء آخر .. و في صباح اليوم التالي و أنا أغسل وجهي قدم رجلان طلبا نقلي إلى بيت عمتي في حلب .. فاعتذرت فأجابا بأنه لا موجب للاعتذار و يجب أن تغادر معنا فورا و دون أية مقاومة .. فطلبت منهم أن أشلح بيجامتي فرفضوا و ساقوني إلى السيارة و وصلنا إلى حلب حيث يقع بيت عمتي قرب الطريق العام – بستان زهرة .. – و لما مررنا بالقرب من المنزل قلت لهم : أشكركم لقد وصلنا فقالا بأن هذا ليس بيت عمتك .. إنك لا تعرفه .. و نحن سندلك عليه .. و قاداني إلى شمال حلب إلى حيث مستشفى الأمراض العقلية .. و كان لؤي يذكر هذه الأحداث بمرارة رهيبة و يضيف :
و بعد فترة خرجت من المستشفى .. و لكن بعد زمنية أخرى و أنا في طريقي إلى دمشق بسيارة أجرى مع أشخاص لا أعرفهم و امرأة تجلس في الصف الأمامي .. بدأت أسمع همسات و من ثم وجهت كلمات بذيئة و محرجة للسيدة .. فأردت الدفاع عن المرأة و تركها و شأنها و لكن الجميع بدأوا يوجهون إلي الشتائم و التنبيهات .. و لما وصلنا إلى سراقب توقفت السيارة عند مخفر سراقب و نزل أحد الركاب مع السائق إلى الشرطة و جلبوا واحدا قادني إلى المخفر و هناك قالوا لي أيها المجنون .. و بدأوا يشتمونني .. بل أن أحدهم
ضربني بأخمص البندقية و آخر ضربني على وجهي و وضعوني في النظارة .
و بات لؤي في النظارة وحيدا و عند الصباح يبدأ يتأمل السهول الفسيحة و العمال و الفلاحين و الأطفال يذهبون إلى أعمالهم .. و بدأ يتذكر لوحاته التي تسطر حياتهم و بؤسهم و شقاءهم ..
يأتي شرطي يقوده من النظارة إلى سيارة باص تتجه إلى حلب و يجلس بجانبه الشرطي و ينطلق الباص ليتوقف بعد قليل و يرمي جسد إنسان مغطى بالدم إلى أرض الباص و يدخل معه أشخاص يحاصرون الجثة بأقدامهم .. و يقول لؤي لي :
- لم أستطع أن أميز إن كان الشخص حيا أو ميتا .. و بدأت أتأمل منظر الدم الساخن الغزير على وجهه .. و بدأ الدم يغطي كامل مساحة العين عندي و لم أعد أرى سوى مساحة حمراء واسعة .. و غبت تماما عن الوعي و لم أعد أتذكر شيئا على الإطلاق .
لم أصح إلا في بيروت .. إذ وجدت نفسي فجأة أسير في شارع الحمراء وحيدا .. و يفاجئني إعلان عن معرض لفاتح المدرس في غاليري وان .. فأشتري زهرة و أضعها على الإعلان .. و أمضي .
و يعرف بعدها بأن الدكتور علاء الدين دروبي قد قام بتطبيبه طوال تلك المدة .. و أن حالته قد تحسنت تماما..
و بدأ الرسم و يقيم له الدكتور علاء الدين دروبي معرضا في منزله في بيروت عام 1972 .. و تباع جميع أعمال المعرض و يقبض لؤي – 16 ألف ليرة لبنانية – و يحملها معه إلى دمشق و هو يفكر مليا .. و يذهب إلى مقهى الحجاز في دمشق – يأخذني لؤي إلى المقهى نفسه عام 1974 أثناء معرضه في دمشق صيف ذاك العام.. و يقول هذا هو المقهى الذي أخبرتك عنه يوما- ... و يجلس في المقهى و يطلب فنجان قهوة .. و بدأ يتأمل المبلغ الموضوع في المحظفة أمامه و ينتقل ببصره إلى المارة و الجالسين يسحبون آخر نفس أركيلة ... و يشعر في تلك اللحظة بأن المادة لا يمكن أن تغير شيئا .. و يتذكر أيام الإفلاس و الحرمان و القهر .. فيقوم تاركا المحفظة التي بداخلها – مبيعات معرضه - .. يتركها على الطاولة و يمضي .
و في اليوم التالي .. عندما يأتي لؤي إلى المقهى ليشرب فنجان قهوة .. يرحب به المضيف .. و يقدم له فنجان قهوة ممتازة .. و عندما يرغب لؤي في الدفع يعتذر المضيف .. و يقول هذه القهوة ضيافتنا .. و لن نقبل الثمن...!!